إعادة تأسيس الأخلاق: منهج النقد الجذري نموذجًا

أسماء الشامسية

إنّ سؤال الأخلاق الذي يحاول الكاتب محمد الحداد طرحه عبر مقاله "سؤال الأخلاق في الفكرالعربي المعاصر، محمد أركون نموذجًا" يمثل محاولة معالجته باعتباره متصلا بالفلسفة وليس بالسلوك وحسب، كما درجت كتب الأخلاق على معالجته، مدللاً على الكثير من المصادر العربية القديمة والحديثة التي انتقدت هذا المنحى في المعالجة، ويخصص الحداد المفكر والمؤرخ محمد أركون نموذجًا رئيسيا في تتبع المسألة الأخلاقية في علاقتها بالتراث والحداثة في آن واحد.

وقد ابتدأ الكاتب استعراض هذه المعالجة عبر كتاب "المسألة الأخلاقية والتشريعية في الفكر الإسلامي" الذي تنطلق فكرة تأليفه بهدف إعادة نشر كتاب "تهذيب الأخلاق" لمسكويه. وقد سعى أركون عبر هذا الكتاب إلى استعراض تقلبات المسألة الأخلاقية في الفكر الإسلامي عبر اشتغال منظومات الفكر الديني واللاهوتي قديمًا على مبدأ الإقصاء المتبادل، وقد وقع ابن خلدون في هذا المنحى وكذلك الفكر المسيحي القديم على يد أوغسطين في عدّه المسيحية وحدها الجديرة بفكرة الحق وكل ما عداها باطل، هذه الفكرة التي تسوغ لاستخدام العنف.

ويذهب أركون إلى أنّ المصدرين الرئيسين للمنظومة الأخلاقية لدى المسيحية والإسلام تنطلق من التراث الديني والفلسفة الأغريقية.

ويشدد أركون على أنّ الفكرالأخلاقي دخل مأزقًا لم يخرج منه حتى يومنا هذا منذ أيام الغزالي والطوسي، لأنّ معالجة قضية الإيمان والعقل حديثًا انتقلت إلى اعتماد "براغماتية نيوليبرالية" لا تهتم بالقيم بل تمّ إهمال "تهذيب الأخلاق" لمسكويه لصالح الأصولية الإسلامية ما أدى إلى التساؤل حول اتجاه القيم في هذه المجتمعات. الدليل الذي يستدل عليه أركون هو الإعلان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرّ رسميا بمنظمة اليونسكو بمبادرة من المجلس الإسلامي، إذ لا يمكن أن يكون إعلان هذا النص مرجعًا أخلاقيا كونيا إذا كان يحمل صفة الإسلامي ويستدل على فقراته من الكتاب والسنة فقط.

وبما أن محاولة القطبين الإسلامي والغربي استعادة القيم الأخلاقية عبر إذكاء الصراع فيما بينهما بالتسلح بالقيم الأخلاقية القديمة، التي تميل للإقصاء والعنف فإن أركون يطرح مشروع "الاستعادة النقدية للقضية الأخلاقية" بعيدًا عن سيطرة وسائل الإعلام الغربية من جهة والخطابات الأصولية الإسلامية من جهة أخرى. إذ أنّ مسلمات الإيمان يجب أن تخضع اليوم لحكم التحليل العلمي مثلما خضعت له من قبل مسلمات الإيمان المسيحي واليهودي مثلما هي فكرته عن "تاريخية الوحي". لكن الحداد يرى في البدء بتاريخية النص من أجل التوفيق بين الأخلاق المعاصرة والقديمة تؤدي إلى تأزم الموقف من القطبين الغربي والإسلامي، وذلك لأنّ ممارسة معرفة علمية على النص المقدس يجب أن تأتي من المسلمين أنفسهم لا أن تمارسه عليهم مؤسسات مفروضة عليهم وربما لا يرونها تعمل في صالح تقدم النص الديني وانفتاحه على العالم، بسبب ذاتيتهم الإيمانية واعتبارهم أنّ معالجة نصوصهم من الآخرين ترسيخ لحملة العدوان ضد تراثهم الديني.

وبحسب أركون يمكن للحداثة باعتبارها مشروعا مفتوحا للإنجاز وليس فكرًا منجزًا أن تعالج القضية الأخلاقية من خلال "إعادة طرح وضع الحقيقة"، لأن الحداثة تعلي من قيمة الاختلاف والتنوع، ويمكنها أن تقدم نظامًا مختلفًا للحقيقة عن نموذج الحداثة التقليدية التي تقوم على مبدأ الحقيقة الواحدة والدين الواحد والحكم الواحد في كل واقعة.

ولكن بحسب أركون يصعب إعادة طرح وضع الحقيقة لصالح "العقل المتطلع" بسبب مأزق الفكر الأخلاقي الذي وصل إلى مرحلة اللاعودة والمتمثل في عدة عوامل هي كالآتي:

رؤية غير نقدية للتراث السني والشيعي تميز العقل الإسلامي، وأنظمة سياسية جعلت كل المجال الديني والتشريعي مجرد إدارة خاضعة للإرادات الديكتاتورية، وغرب متجبّر يتصرف في العالم حسب مصالحه وأهوائه. إذ أنّ هذا المأزق بلغ التمام في وصوله إلى طريق مسدود، بعيدًا عن محاولة وضع صيغة للفهم والتفاهم، وازدياد حدة الاستقطاب بين الأطراف المتنازعة، وترسيخ متزايد للذاتية يتضح في ظهور تمثلات أخلاقيّة متطرفة سواء كانت على شكل التشريعات التي تفرضها الدول مثل فرنسا في إقصائها للدين في تشريعاتها العامة، وعدم محاولة إعادة الاعتبار له عبر أي منظور للحقيقة متجدد وحداثي، أو عبر تمثلات القيم الأخلاقية التقليدية العنيفة والمتطرفة في الاستقطابات السياسية والدينية في العالم الإسلامي.

ويختلف الكاتب في قراءة أركون لتاريخ الفكر الأخلاقي ولا يرى أن هذا الفكر جاء مع جيل مسكويه والتوحيدي ومن ثم تحوله إلى مجال الأخلاق الإنسانوية وحسب بل إن المجال الأخلاقي الإسلامي في القديم تنازعته ثلاثة تيارات أولها: تيار فقهي يُحول الأخلاق إلى أحكام قانونية موزعة إلى مراتب خمس: الوجوب، والندب، والكراهة، والمنع، والإباحة. وثانيها: تيار فلسفي يوفق بين القيم الدينية والفلسفة الأخلاقية الأفلاطونية وهو الذي ساهم في تحويل الدين الإسلامي من دين عربي إلى فلسفة أخلاقية كونية، وجاء مستجيبًا لتوسع الإمبراطورية الإسلامية واتساعها إلى عدد ضخم من الأعراق والثقافات، وثالثها: تيار روحاني يحوّل قضية الأخلاق إلى المجال المعروف بالتصوّف.

ويختلف الكاتب مع أركون في مسألة إعادة تأسيس الفكر الأخلاقي الإسلامي الذي يرى أركون أنّه ينطلق من النقد الجذري لكن الحداد يرى أنّه ينطلق من بعض "الحدوس المجددة". فلقد كان محور الخلاف حول خطاب محمد عبده الذي رآه أركون أنه خطاب دعائي سطحي، بينما رأى الحداد أنّ خطابه عبّر عن الحدس وأن الفكر الإسلامي لو قبل بتطويرها لتوصل إلى وضع مقبول للمسألة الأخلاقية لأنه وبحسب أركون نفسه في كتابه "قضايا في نقد العقل الديني" يولي أهمية بالغة ليس للعقل وحده بل بالتوازي مع حضور الخيال وجموحه واتساعه الخلاق.

ويرى الحداد أنّ منهج أركون يدور في حلقة مفرغة فهو يضع المنهج النقدي كحل للمسألة الأخلاقية ثم يضع حجة الوضع القائم كعائق لتطبيق المنهج النقدي باعتباره غير قابل للتطبيق، ثم لابد من إعادة تأسيس الأخلاق بالنقد أيضًا ليجد الحجج نفسها تمثل انسدادًا لآفاق الحل النهائي.

في اعتقادي أنّ المشروع الذي جاء به أركون وحاول به مغازلة التيارين الغربي الحداثي والإسلامي الأصولي من أجل تفكيك المسألة الأخلاقية لم يحظَ بإعجاب أي من الفريقين ربما لأسباب متعلقة بصعوبة بناء نظام أخلاقي عبر تفكيك النصوص التاريخية، بسبب قداسة التاريخي أولاً وثانيًا بسبب تأزم العلاقة الحضارية بين الغرب والشرق؛ باعتبار أنّ الغرب مارس على مدى القرنين الماضيين أسوأ حملة عنف عبر الاستعمار والتوسع الإمبريالي، فحروب الاستعمار ساهمت في تأسيس صورة عن الغرب باعتباره عدوا مترصدا، وهذا عزّز موقف المقاومة لدى المسلمين وزاد من تشبثهم بالمسائل الأخلاقية المتداولة وممارستها عمليا دون نقد وتمحيص، بل على العكس فإنّ مساءلة الأخلاق فلسفيا هي صورة من صور الهدم للجانب السلوكي من الأخلاق، لأنّ الجانب الإسلامي لا يمتلك الأدوات المنهجية التي تعزز فهمه للأخلاق فلسفيا، لأنّه لم يشارك في صنعها أثناء التحولات الكبرى في الثورات الثقافية والعلمية في أوروبا فضلا عن مخاوفه من هدم الصورة النمطية للأخلاق التقليدية وتحول خصوصيتها إلى أخلاق ممسوخة من التجربة الغربية.

 

أخبار ذات صلة