أسماء الشامسية
في مقاله "علم الكلام: من إثبات العقائد وبيانها إلى حل الإشكاليات المعاصرة" للكاتب عبد العزيز راجل، يبتدئ الكاتب مقاله بذكر التعريفات المتعددة لعلم الكلام وأسباب التسمية لفقهاء وعلماء ومفكرين وقضاة معاصرين وسابقين، فضلاً عن الظروف التي أدت إلى ظهور علم الكلام، وفي الحقبة التي نشأ فيها انصب اهتمامه على الدفاع عن العقيدة الإسلامية عن طريق إقامة الأدلة والحجج على صحة المعتقدات الدينية. ويعزو الكاتب ظروف نشأة علم الكلام إلى ثلاثة عوامل أولها: مُقاومة الشعوب التي فتح بلدانها المسلمون عن طريق تسلحها بحملات ثقافية مضادة ضد العقيدة الإسلامية للتشكيك بها وإضعافها، ثانيها: الخلافات حول الإمامة أدت لظهور فرق دينية تتجادل حول العقيدة الإسلامية، ثالثها:الآيات المتشابهات مبهمة المعنى على العامة، التي يعارض بعضها بعضًا في الظاهر.
ويقوم علم الكلام في أساسه على الدفاع عن العقيدة الإسلامية من حيث الاستدلال عليها بالبراهين العقلية، ويأتي"التوحيد" كأهم موضوعات علم الكلام.وتطورت مناهج وأساليب علم الكلام بتغير الظروف والتحديات التي واجهت عقيدة المسلمين إذ استخدم المتكلمون في بدايات علم الكلام الأسلوب النقلي في الحجاج وهو الاستدلال القائم على نصوص القرآن الكريم كشواهد على الآراء النقدية في الحوار الدائر بين الفرق الإسلامية، أو ردا على الشواهد المخالفة لها الضعيف منها والمنحول، وفي القرن الثاني للهجرة نشأ الأسلوب العقلي في الحجاج على يد المُعتزلة ليصبح هذا الأسلوب الغالب على الفكر الكلامي.
وفي سياق حديث الكاتب عن أزمنة علم الكلام وتطوره عبر المراحل التاريخية، فقد ظهرت الدعوة لإحياء علم الكلام من النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي وحتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين الميلادي، ومن مميزات هذه الدعوة لإحياء العلم تطهير وجدان الأمة من الخرافات وتأكيد دور العقل والعلم بوصفهما رافدين رئيسيين لتغذية المعتقد ومن أعلام هذه الفترة جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده ثم في مرحلة لاحقة انتقل علم الكلام إلى طور التجديد من خلال الاستجابة لمتطلبات الحياة الجديدة، ومن رواد هذا الطور المفكر الهندي محمد إقبال وفي أهم مراحل علم الكلام حدث انعطاف منهجي للعلم بصدور كتاب "الأسس المنطقية للاستقراء" وفيها يكون علم الكلام قد تحرر من قوالب المنطق الأرسطي.
ويقتبس الكاتب على لسان المفكر أحمد قراملكي تحول موضوعات علم الكلام باختلاف المرحلة، فلم يقف علم الكلام عند المسائل العقدية فقط كصفات البارئ والأفعال النبوية إنما تعداها إلى القضايا التوصيفية والأخلاقية طبقاً لمُتغيرات الظروف السياسية والاجتماعية، فعلم الكلام الجديد اعتنى بموضوعات العصر الراهن مثل الأسلحة النووية والبيئة الإنسانية واللامساواة الاقتصادية وحقوق الإنسان والقضايا الاجتماعية والعمل وقضية البطالة والنزاع العرقي والإجهاض والميول الجنسية وغيرها من القضايا التي أصبحت تطرح ضمن اهتمامات علم الكلام ليس لأغراض جدلية أو من أجل إثبات أمر بقدر ما هي أغراض عملية لإيجاد حلول للمشكلات المعاصرة.
وفي هذا السياق يطرح الكاتب اتجاهات تجديد علم الكلام على مستوى المنهج والموضوع بسرد إسهامات المفكرين المعاصرين فعلى المستويين السابقين نعرض على سبيل المثال كتاب الشيخ محمد عبده عبر مؤلفه "رسالة التوحيد"الذي حافظ فيه على البناء المنطقي لعلم الكلام الإسلامي، إذ شرع فيه بذكر مقدمات علم الكلام- ـ القضايا العقدية التقليدية ـ الله والعالم، الإنسان، والرسالة، والمعجزت والوحي، والقرآن وعالم الغيب ردا على الشبهات المثارة وخاصة من قبل العقل الغربي.
والأمر نفسه ينطبق على كتاب "أصول الحوار وتجديد علم الكلام" لطه عبد الرحمن، وكتاب "الإسلام يتحدى" لوحيد الدين خان.
ويفرد الكاتب في مقاله مساحة يخصص فيها عرض اتجاهات التجديد في الساحة الشيعية، بسبب الحماس الشديد لتجديد علم الكلام، والسبب في ذلك يعود إلى أصالة علم الكلام لديهم من جهة وقدرته على تحرير المسلمين من التبعية الفكرية من جهة أخرى، ويؤيد رأيه بأدلة على اهتمام المذهب الشيعي بالعلم من خلال احتضان الجامعات الإيرانية والحوزات العلمية لاتجاهات جديدة في علم الكلام وتتضمن هذه الاتجاهات ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: مرحلة المواجهة الحرجة بين إيران والعالم الغربي في زمن الثورة الإيرانية في بداية القرن العشرين التي زامنت ظهور بعض تلامذة العلامة الطبطبائي والشهيد مرتضى مطهر، وهو أول من طرح الفكرالجديد في الكلام الإسلامي وقد اعتنى بطرح جديد للمسائل الكلامية القديمة بنحو ابتكاري ومستقل مستفيدا من العلوم الحديثة. وبالتزامن برز الدكتور علي شريعتي بتقديمه صورة أيديولوجية عن الإسلام لينافس بها الأيديولوجيات المعارضة للدين مثل الماركسية.
المرحلة الثانية: تقديم الإسلام في عهد الثورة الإيرانية تقديما أيديولوجيا، من خلال إحياء الفكر الديني من قبل الإمام الخميني وفرضه في الساحة السياسية، ما مكّن من إثراء النقاش حول مسائل جديدة بلغت قمته مع مشروع عبد الكريم سروش صاحب مؤلف"القبض والبسط النظري للشريعة".
المرحلة الثالثة: مرحلة مُعالجة الفكر الإيراني لإشكالية المنهج والمباني، تضمنت أهم مسألة فيهما مسألة القراءات المتعددة للتعاليم الدينية، إذ تصاعد تيار الكلام الجديد بعد الثورة الإسلامية عام ١٩٧٩ بالتوازي مع التحديات التي واجهت الحكومة الإسلامية، وظهرت نقاشات متواصلة حول نطاق التجديد، منها أن الكلام لا يطال إلا جوانبَ محددة من جوانب الكلام المعرفية، وأخرى تقول إن الكلام الجديد يُجدد في الهندسة المعرفية، مع حفاظه على الهوية الأصلية، ونقاشات تقول إن الكلام الجديد لابد أن ينعتق من هويته التقليدية ويتزيا بهوية جديدة.
وبعد سلسلة من العرض الدقيق لتطور علم الكلام من التقليدي إلى الجديد ومعالجة الإشكالات التي واجهها يعرض الكاتب ملاحظات نقدية حول علم الكلام الجديد على لسان أ.محمد يحيى كالآتي: إن علم الكلام الجديد يفتقد للوضوح المنهجي في التعامل مع القضايا، ووقوع العلم في الأيدولوجيا والمذهبية، فضلاً عن عوم علم الكلام دون كينونة تجعل منه علمًا تخصصياً.
وكثر الجدل حول علم الكلام وضرورة تنحيته من التخصص أو جعله في متناول الجماهير، وما إذا كانت الحاجة إلى علم الكلام قائمة من عدمه راهنًا، واقتراح تسميته بـ"فلسفة الدين" بدلا من وسمه بـ"الكلام الجديد"، فضلاً عن مشكلات مرتبطة باحتضان علم الكلام الجديد في ظل أزمة المؤسسة العلمية والدينية في العالم العربي والإسلامي.
ونقول إن علم الكلام باعتباره منتجًا إسلاميا أصيلا، فقد كان في مرحلة ما من ظهوره يمثل أهمية كبيرة لحقبة زمنية وأخرى، خصوصًا وأن الإسلام في أيام الفتوحات احتاج إلى تقوية أدواته ليرسخ في المناطق المفتوحة في ظل الهجمات الثقافية التي تبعت دخول ثقافات أخرى، وبالطبع في ظل تحولات اجتماعية وسياسية بعينها تظهرعلوم وتتطور أدوات ويتراجع بعضها حسب الحاجة، وفي الواقع نجد أن علم الكلام أصبح "تراثًا" إذ إن العالم الإسلامي أصبح متأثرًا بأشكال الحضارة الحالية، والتي لاصلة لها تقريبًا بموضوعات ومناهج علم الكلام، ولو افترضنا تجديد العلم ليصبح "كلامًا جديدًا" فلابد أن يستقي أدواته من العلوم الحديثة فلا يصبح بعدها علم الكلام هو علم الكلام كما عرف بشكله الأوليّ، حتى ذلك الذي جاء به مفكرو القرن العشرين، وأجدني أميل إلى الرأي القائل بأن علم الكلام يخوض في مواضيع "غيبية وقطعية" يجزم بها من يعتقد بها، فكيف يمكن لقطعيات علم الكلام أن تتساوق مع العلوم الحديثة القائمة على الموضوعية وتأييد العقل والنسبية؟ والسؤال الذي يطرح هو إذا كان لابد من الوقوف موقفًا إيجابيا من علم الكلام باعتباره أحد أهم وسائل تطوير المعارف الإسلامية التي تنعكس على وضع الأمة فلماذا لم يتمكن علم الكلام الجديد من مجاراة العلوم الحديثة؟ رغم محاولات المجددين والمصلحين بالاجتهاد على كافة الأصعدة؟ وإذا كان علم الكلام قادرًا على تخطي الحضارة الغربية فهل وضعه الغرب موضع النقد والتمحيص والدراسة باعتباره مجاريا لعلومهم ومتخطيا لها؟أم أن ظهور علوم وخفوت أخرى أمر حتمي لابد منه ضمن طبيعة الصيرورة التاريخية؟.
