حقوق الإنسان.. من النصوص الدينية إلى المواثيق العالمية

أسماء الشامسيَّة

في مقاله "حقوق الإنسان في الأديان الإبراهيمية: ترشيد لمنظومة حقوق الإنسان المعاصرة"، والمنشور بمجلة "التفاهم"، يُشير الكاتب مُحمَّد الناصري إلى قضية حساسة ومهمة مرتبطة بانتهاك حقوق الإنسان بسبب تأثير الأصول الفكرية المهيمنة على هذه الحقوق، والتي تقوم على أسس مادية بشَّر بها العصر الصناعي من مظاهرالإنتاجية واللذة والمُتع اللحظية التي تصب في المصلحة الذاتية أولاً وأخيرًا .ويدلل على ذلك باقتباس من كتاب هوبز "الأساس النظري للديمقراطية الليبرالية"، الذي يُروِّج لإطلاق المذهب الأناني حسب قوله، ويحاول الكاتب عبر مقاله عرض النصوص الدينية المناشدة بالحقوق الإنسانية ونقيضها، ليصل في النهاية إلى رؤية مشتركة تهدف لاحتضان حقوق الإنسان بتوحيد رؤى النصوص الدينية والوضعية.

ويعتقدُ الكاتب أنَّ الحقوق لم ينظر لها إلا من حيث خدمتها للإنسان الغربي أولاً وطموحاته التوسعية؛ باعتباره المركز والباقي أطرافًا وهوامش، وبذلك تكون الحقوق منحازة لفئات وشعوب وأقوام دون أخرى.

 

ويقترح الكاتب حلًّا يتمثل في تفعيل البُعد الديني من أجل ترشيد وتصويب منظمومة الحقوق، إضافة لتصحيح مسار المشكلات النفسية والاجتماعية المدمرة للإنسان، والتي هي أحد إفرازات التطور الفلسفي المادي المحض. والهدف من ذلك هو رد الاعتبار للحالة الوسط والمتوازنة التي ينبغي أن يكون عليها الفرد والمجتمع وليس الهدف هو الركون إلى فلسفات دينية منغلقة تضر أكثر مما تنفع.

ويستشهدُ الكاتب بأمثلة وأدلة مُتعدِّدة على الدور الأساسي لا التكميلي للنصوص الدينية التوراتية والإنجيلية، ومن ثمَّ الفلسفة الحقوقية في الإسلام؛ باعتبارها أول المصادر التي عنيت بحقوق الإنسان كالآتي:

 

أولاً: حقوق الإنسان في اليهودية

ومن ذلك التشريعات اليهودية في صحف موسى، التي سماها القرآن بهذا الاسم في قوله تعالى: "إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى"، وقد ذكرت الوصايا العشر في سفر التثنية ما يدلُّ على الحقوق الإنسانية، كحق صون الحياة وحق صون الملكية وفي صيغة "لا تشته بيت أحد ولا حقله ولا عبده ولا أمَتَه ولا ثَوْرَه ولا حماره ولا شيئًا مما لسواك"، إضافة إلى حقوق دينية؛ مثل: الحق في البراءة الأصلية وعدم تحمل أوزار الآخرين، وحق الوالدين في الإحسان إليهما وإكرامهما وحق الفقراء والمحتاجين في المساعدة والمواساة والحق في المساواة والحرية والتعليم.

لكنَّ الكاتب يعالج مسألة معاكسة لمسألة منح الحقوق في اليهودية وهي تحول شريعة الرحمة إلى شريعة الأغلال والحرج والمشقّة من خلال الإفراط في تشديد العقوبات، ويصل الكاتب إلى هشاشة منظومة حقوق الإنسان اليهودية، فضلاً عن أن ما أقرته اليهودية من حقوق منصفة هي خاصة ببني إسرائيل من اليهود دون غيرهم، وليست شاملة لكل الناس؛ مثل: الحق في الحياة وحق التملك وما عداهم يستحقون القتل والتهجير القسري، إذ يصل الكاتب في نهاية الحديث عن حقوق الإنسان في اليهودية إلى اعتباره نوعا من المخاطرة العلمية.

 

ثانيًا: حقوق الإنسان في المسيحية

يصلُ الكاتبُ في مسألة الحقوق في المسيحية إلى اعتبارها أكثر من اليهودية دعوةً لاحترام حقوق الإنسان وحرصًا على حفظ كرامته، ولكن مع ذلك تجد من النصوص النقيضة في الأناجيل التي قد تبدو مُكرمة للإنسان مُحافظة على حقوقه في عقيدته واجتماعه وفكره، لكنَّ نصوصًا أخرى تناقضها نقضًا صريحًا وتلغيها.

ويعزو الكاتب ذلك إلى التحريف والهوى الذي طال الأناجيل، إضافة لسيطرة الكنيسة على مفاصل الحياة دينًا ودولة في القرون الوسطى وفرضها الوصاية عليهما. وكمثال على ذلك: التطرف في الوصاية على الدين من خلال احتكار تفسيره وزعم استمداد تعاليمه من الله أو من المسيح عبر صكوك الغفران وتكفير الخطايا وحجز مقاعد في الجنة ومحاكم التفتيش.

 

ثالثًا: حقوق الإنسان في الإسلام

يدلِّل الكاتب على منح الإسلام لحقوق معتنقيه كاملة بمبدأ تكريمه عبر الآية القرآنية: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا". ويدلل في تفسير الآية أنها لم تحدد فئة أو جنسا أو لونا معينا يختص بهذا التكريم دون سواه، كما أنها لم تشر إلى أنها كرمته لأي سبب من الأسباب بل كونه مكرمًا لذاته الإنسانية.

كما دلَّل على ذلك من تعاليم السنة النبوية التي جاءت لتنهي عهد التمييز العنصري والإقصاء، بقول الني محمد صلى الله عليه وسلم: "إن أكرمكم عندالله أتقاكم". وهو يريد أن يصل إلى أن القوانين والمواثيق الدولية التي أعلنت حقوق الإنسان في الغرب إنما كانت تستهدف ترسيخ تمتعه بحق الكرامة الذي يسمى في الإسلام بحق التكريم.

ونصل في نهاية المقال إلى التساؤل: هل توصل الكاتب إلى حقيقة تناقض النصوص السماوية من تلقاء ذاته بعد بحث مطول ورصين وفيه من المصداقية الشيء الكثير، أم أنه ترديد مكرر لما اعتدنا سماعه من آراء متعلقة بانحراف النصوص السماوية بعد أن أصابها التحريف والتهويل؟ وإذا كان الكاتب يدعو لمراجعة النصوص السماوية الأخرى واستنباط ما يساعده على التأسيس لفكرته في التدليل على الحقوق التي جاءت بها النصوص الدينية، فلماذا لا يتم تجاهل النصوص المناقضة في الديانات الإبراهيمية وإبراز ما يُمثِّل منها أبعادًا إنسانية وعادلة؟ إذ ما يهم هُنا، ليس نَسْف ما يُؤمِن به الآخرون بقدر البحث عن المشتركات التي تجتمع عليها المشتركات الدينية؛ لأن عقائد الآخرين بالنسبة لهم صحيحة تمامًا، ولكن ما يهم أكثَر أن تعزيز التعاليم الجيدة التي جاءت بها الأديان ومراجعة ما يعتقد أنه محرَّف ووضعه على الطاولة للنقاش الجريء والجاد.

وفي الواقع، ليست وحدهما الديانتان اليهودية والمسيحية أصيبتا ببلاء التحريف -إن صدق هذا الأمر تاريخيًّا- ولكن الإسلام أيضًا ابتلي بسوء الفهم والتأويل والمغالاة في تفسير آياته، بل وإنه بعد قرون من التأسيس للمساواة ونبذ العبودية من شبه الجزيرة العربية، نجد أنَّ تركيبة المجتمعات العربية -خصوصا تلك التي نزل فيها الإسلام وانتشر في البداية- قد مسَّتها لوثة الطبقية والمناطقية والاثنية وعززت بعض الأحداث التاريخية والسياسية ذلك، وها هو أرشيف الماضي يصبح واقعًا صعب القهر، فإن العرب المسلمين أنفسهم غير قادرين على تطبيق النصوص الإسلامية في واقعهم بسبب وجود وجوه التفريق الطبقي والعرقي التي تسيطر على فكر وروح الكثير من المجتمعات العربية المسلمة!! فكيف بعد ذلك يتغاضى الكاتب عن تجاهل معتنقي الإسلام لتعاليمه قبل تجاهل وتحيز الإمبراليات المعاصرة للحقوق الإنسانية في الأديان؟ وكيف يُقر مبدأ تكريم الإنسان عالميا إذا كانت مظاهر الجاهلية لا تزال تستقر في سماء الكثير من المجتمعات المتدينة نفسها؟!

أخبار ذات صلة