القومية الأوروبية: تحول المفهوم وتأثيرات الأحداث التاريخية

أسماء الشامسيَّة

في مقاله "التكوين المتعدِّد المسارات للقوميات في أوروبا: انعكاس تحولات اجتماعية وثقافية وسياسية"، والمنشور بمجلة "التفاهم"، يسرد الكاتب والباحث محمود حداد سردًا تاريخيًّا، الفترات الزمنية التي انطلقَ منها مفهوم التبلور القومي في أوروبا، موضحًا المغالطة الشائعة التي زامنت ظهور القوميات ببزوغ التقدُّم التكنولوجي الذي أسفرتْ عنه الثورة الصناعية، شارحًا ثلاثة نماذج تفصِّل مظاهر القومية وتطورها في أوروبا الغربية.. كالآتي:

إنجلترا والقومية:

إذ وفي أثناء المرحلة الإقطاعية في إنجلترا حَدَث تحوُّل كامل في تركيبة المجتمع الإنجليزي بسقوط الأرستقراطية الإقطاعية التقليدية، وظهور الأرستقراطية التيودورية الجديدة، مع ما صاحب هذه المرحلة من إزاحة رجال الدين من مراكز إدارية حساسة، وحل ذوي المستويات العلمية الجيدة محلهم. وأنتجتْ هذه المرحلة وعيًا اجتماعيًّا جديدًا من خلال تغيير المفردات؛ إذ تغيَّر معنى كلمة "الوضعية"، وأصبحت مُرَادِفة لمفهوم "الأمة"، بعدما كانت تعني "المكانة"، وكذلك من خلال تحول مفهوم "القومية" عبر توحيد مفهوميْ "الشعب" و"الأمة"، وجعلهما مفهوميْن مترادفيْن؛ ما يعني أنَّ كلَّ فرد من الشعب الإنجليزي ارتفع إلى مرتبة "النخبة"، وأنه يتمتَّع بالحكم الذاتي أو السيادة إذ لم يعد الدم الأزرق شرطًا للانتماء إلى الطبقات العليا من المجتمع. وأدَّى هذا التحول إلى إكساب قطاع عريض من السكان القوة الشرعية والفكرية؛ من خلال زيادة أعداد الطبقة العليا، وظهور طبقة وسطى تحمل نزعة للعمل والإنجاز، دفعتها حماستها القومية للحصول على نفوذ أكبر من خلال المشاركة في العملية السياسية (البرلمانية)؛ إذ أصْبَح البرلمان خلال هذه المرحلة جزءًا لا يتجزأ من أسباب الانفصال الديني عن رومَا ودعم زيادة الوعي القومي.

كما أسهم الإصلاحُ البروتستانتيُّ أيضًا في تطور القومية الإنجليزية؛ إذ كان الإنجيل الإنجليزي والدعوة القوية غيرالمسبوقة إلى التعليم ذات تأثير كبير في الارتقاء الاجتماعي للأرستقراطية الجديدة، فضلا عن ظهور التعبير عن الشعور القومي في الآداب كما في كتاب رجل الدين البروتستانتي جون فوكس "كتاب الشهداء". والأمرُ نفسه حدث مع تفوُّق العلوم الإنجليزية في القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ إذ أعطيت العلوم الدعمَ الاجتماعيَّ القوي من خلال ربطها بالتعاطف القومي، وكانت تلك الحالة من الاستحسان الاجتماعي الشرط الأساسي لمؤسسة العلوم.

كما طرقت القومية المجال الاقتصادي، وأصبحت الأنشطة الاقتصادية التي تهدف لتحقيق الربح محطَّ احترام ومراعاة من ناحية أخلاقية، ووجهت من أجل زيادة الثروات أو تحقيق النمو الاقتصادي؛ إذ أصبحتْ اهتمامات الكسب الاقتصادي أكثر نُبلاً ورِفعة في سبيل تحقيق الثراء للأمة بالقياس إلى ثراء الأمم الأخرى؛ مما أدى لتعزيز سمة المنافسة الاقتصادية.

 

فرنسا والقومية:

مرَّت فرنسا بمراحل مُتعدِّدة من تغيُّر مفهوم الهُوية الفرنسي، وارتباط مفهوم الدولة بالمَلِك، وتبدُّل الولاءات واستحقاقات الملوك لها من عدمه، ومُواجهة الاستبداية الملكية؛ إذ إنَّ فرنسا على خلاف إنجلترا رسَّخت حِسًّا قويًّا بالانتماء؛ من خلال اختلاط الدين بالسياسة. وفي أواخر القرون الوسطى، ساد اعتقاد بأنَّ المرء لكي يصبح مسيحيا صالحًا يشترط ولاؤهُ الكامل للملك، وعندما تمَّ استيراد مفهوم الأمة من إنجلترا ساد الاعتقاد بأنَّ "الأمة" وليس "المَلِك" هي ما يجب تقديم الولاء لها. مع ذلك، ظلَّت القومية حبيسة دوائر النبلاء الذين كانوا في خلاف مع الملك حتى اندلاع الثورة الفرنسية، ولكن لأنَّ إنجلترا كانت قد أخذت مكان فرنسا كأكبر قوة في أوروبا، فقد بدأتْ تنمو مشاعر الكراهية ضد الأمة المسيطرة، ووضعوها كنموذج نقيض لفرنسا؛ باعتبارها تهديدًا لكرامة فرنسا، وهذا بدوره شجَّع على إيقاظ أحلام "المجد" التي جعلتْ القومية الناشئة الفرنسية قومية شرسة، لكنَّ التأكيد الأبرز على قومية فرنسا كفعل تأكيد وطني للذات تمَّ عبر الثورة الفرنسية في العام 1789م، وأعادتْ الأمة الفرنسية هُويتها كأمة جماعية أي مجموعة أفراد لها نفس الإرادة والمصالح، لكنها قومية سلطوية انقسمت إلى قسمين، الفريق الأول: قادة معبرون عن إرادة الأمة. والفريق الثاني: عامة الشعب. ومع ذلك، أصاب القومية الفرنسية كمفهوم وممارسة بعض الغموض والتناقضات الداخلية؛ إذ إنَّ المعايير المدنية للانتماء القومي تعترف بحرية الأفراد، بينما التعريف الجماعي للقومية الفرنسية لم يعترف بها.

 

ألمانيا والقومية:

وعلى خلاف القوميتيْن الإنجليزية والفرنسية، فإنَّ فضلَ نشوء القومية الألمانية يعود لمُثقفي الطبقة الوسطى أكثر منها الأرستقراطية؛ بسبب اختبارهم لغياب الهُوية والعزلة الاجتماعية من خلال تهميش "البرجوازية المتعلمة"؛ مما أدَّى لمطالبتهم بتعريف وتحديد وضعهم الاجتماعي ومنحهم هُوية جديدة، وكانت ثورتهم ضد النظام القديم لم تكن مُقتصرةً ضد النظام الاجتماعي وحسب، بل ضد حركة التنوير أيضًا، والتي عزَّزت آمالَ المثقفين بالوصول للمراتب الاجتماعية الرفيعة وثقتهم بأنفسهم. ونتيجة لهذا الاستقطاب، وجدوا فرصَ التحاقهم بالعمل أقل؛ بسبب الزيادة الكبيرة في أعدادهم؛ مما أوقعهم في البطالة والتذمر والاكتئاب الذي نتج عنه نشوء "الرومانسية".

ورَغَم أنَّ الرومانسيين الألمان لم يكونوا قوميين في البداية، وكانت موضوعاتهم بعيدة عن التداعيات السياسية -لأنَّ القومية كانت بعيدة عن مزاج النخبة الحاكمة- إلا أنَّ تغييرا حَدَث بعد الاجتياح الفرنسي للولايات الألمانية في بداية القرن التاسع عشر؛ إذ قدَّم الفرنسيون وعودًا للرومانسيين الألمان، وفرصة نادرة للمثقفين لأن يتماثلوا مع النخبة الحاكمة؛ مما يُمكنهم من رفع مستواهم بصورة رمزية، وإنهاء الحواجز الطبقية بينهم وبين النخبة الحاكمة، لكنَّ الرومانسيين الألمان تصدُّوا للفكرة، واختاروا أنْ تكون قضيتهم الألمانية هي "النخبة الحاكمة"، والدفاع عنها، على أنْ يتسجيبوا لإغراءات المحتل.

ومن ناحية تأثير القوى الدينية، قامت الرومانسية الألمانية بعلمنة تعاليم التقوى، وجعلتها في مناخ أقل تناغمًا مع الدين؛ إذ إنَّها رفضت في فلسفة التنوير التشديد على العقلانية والاستقلالية الفردية؛ كون ذلك يفصل الأشخاص عن طبيعتهم الاجتماعية الحقيقية، ويساعد على تهميشهم وجعلهم يعانون من الوجوم والكآبة، ورفضهم لـ"لفردية" يعني تأصيلهم لمفهوم "الجماعة" الذي عبره يمكن للأفراد استعادة ذواتهم الضائعة كي يصلوا إلى الكمال، وكانت اللغة بالنسبة لهم أساساً ماديًّا، تتحدَّد برابطة الدم، وتلك الرابطة سميت فيما بعد بـ"العِرْق"، وعندما تمَّ إضفاء صفة القومية على الفلسفة الرومانسية أُعِيد تعريف مفهوم الأمة باعتبارها مجموعة طبيعية يجمعها العرق واللغة أي جماعة إثنية؛ لذلك تركَّز العداءُ القوميُّ الألماني على أوروبا من هذا المنطلق، خصوصاً يهود أوروبا؛ باعتبارهم عِرْقا ذا طبيعة رديئة "بيولوجيا" وليس "دينيا"، وبناءً عليه فهم ليسوا جزءًا من الأمة الألمانية، ومن أجل التأكيد على الطبيعة العرقية لليهود تم ابتكار كلمة ألمانية جديدة وهي "معاداة السامية".

وهكذا.. يمهد لنا كشف وتتبع تطور "القومية" في أوروبا فهمَ وتحليل الواقع السياسي والاجتماعي الراهن، الذي انطلقت منه الرُّؤى السلطوية والتوجهُّات السياسة للدول والنخب الحاكمة. وبالطبع، استفادتْ بعضُ الدول الأوروبية من تجاربها التاريخية القاسية، كما في حالة ألمانيا النازية، فيما لا تزال دولة مثل فرنسا تَرْزَح تحت تعقيدات وتناقضات تعريفها ومنحها للحريات الفردية في القضايا المتعلقة بحريات المهاجرين المسلمين (الحجاب مثالاً)، ويُلَاحظ تفاوت نضوج تجارب الحريات الفردية والسياسية لدى كلٍّ من: إنجلترا، وألمانيا، وفرنسا، رغم تقارب التأثير الحضاري للثورات الداخلية والفلسفات وليدة حركة التنوير.

أخبار ذات صلة