القيمة.. النظريَّة والمفهوم الإسلامي وعوامل التأثير

أسماء الشامسيَّة

يُفنِّد الكاتبُ مُصطفى محمود عبدالسلام وجهةَ النظرِ القائلة بأنَّ طابعَ المدارس الفكرية التي تبنَّاها المسلمون لم تخرج عن إطار مُحددات المذاهب الاقتصادية الأوروبية؛ إذ يرى على عكس ما تقدَّم أنَّ الدينَ الإسلاميَّ جاء بنظمه وشرائعه واقتصاده وسياسته وقيمه، أي بمُحدِّداته الخاصة التي تُشكل معالمَه الحضارية التي تُميِّزه عن غيره. ففي مقاله "المفهوم الإسلامي للقيمة لدى الاقتصادي أبي الفضل الدمشقي"، يُفصِّل الكاتب نظرية القيمة بناءً على آراء أبي الفضل الدمشقي، والعوامل التي تؤثر فيها ومُحدِّداتها ومُكوِّناتها حسب المنهج الإسلامي الذي يستند إلى أهم معطيين؛ هما: القرآن الكريم، والسنة النبوية.

ويطرح الكاتب المفاهيم التي تُؤسِّس للفهم الشامل لنظرية القيمة كالآتي:

أولاً: تحديد مفهوم المال، والذي أورَدَ فيه رأي الجمهور باعتباره: ما يمكن حيازته والانتفاع به. والمال مُقسَّم عند الفقهاء حسب ما له قيمة وحُرمة في الشريعة الإسلامية إلى نوعين من المال: مال مُتقوم ومال غير متقوم. فالمتقوم هو مال المنافع المباحة ولا تشبع الحاجات الإنسانية إلا ببذل الجهد فيه مثل الأموال الاقتصادية، وهي صالحة للتبادل والمنفعة. أما غير المتقوم -أي الأموال الحرة التي تشبع الحاجات الإنسانية دون بذل الجهد فيها- فهي بلا قيمة سوقية حتى لو كانت تُحقق المنفعة.

أمَّا الأموال المُحرَّمة، فهي تتعارض مع أحكام الشريعة، ولا تكون للمنافع التي أنتجتها هذه الأموال أية قيمة مُعتبرة شرعًا؛ وبذلك لا يكون لها سعر في السوق. وبناءً عليه، فإنَّ القيمة في السوق تُعزَى إلى عنصرين لابُد منهما؛ أولا: أن تُجسد السلعة قدرًا من العمل الإنساني، وأن يكون العمل المبذول وفقًا للشروط الشرعية.

نفهم من هذا التأسيس الفقهي للقيمة أنَّ الاعتبارَ الشرعيَّ الأخلاقيَّ يُشكِّل أحد أهم عناصر القيمة، ويضع الكاتب هذا الشرط في مُقابل الاقتصاد الوضعي كما يُسميه، وهو الذي تنتفي فيه الاعتبارات الأخلاقية على حساب الاعتبارات الربحية.

ومن أجل أن يُوجِد الكاتب مُقاربة أفضل لمفهوم القيمة، يُبرز رأيَ أحد أهم الفقهاء وهو أبو الفضل جعفر الدمشقي، الذي رأى الكاتب في آرائه وتصوُّراته رؤيةً اقتصاديةً شاملةً للمال بعامة؛ بسبب اشتغاله في التجارة وخبرته في الحياة الاقتصادية، وضمن أهم القضايا التي عالجها القيمة والقيمة المتوسطة والرشد الاقتصادي وعوامل تكوين الثروة وأنماط العمل التجاري.

إذ إنَّ الدمشقي في تحليله للقيمة والسعر استند إلى مبدأ التراضي بين البائع والمشتري؛ وذلك لأنَّ العُرف الاقتصادي عند الفقهاء يقضي بربط مشروعية التبادل وإقرار مبدأ التراضي بين الطرفين؛ وذلك لأهمية هذا الربط في إظهار جانبي العرض والطلب، والتوازن في المعاملات الاقتصادية ونفقة الإنتاج، أو بعبارة أخرى تكلفة الإنتاج ورغبة المشتري في الحصول على السلعة والمنفعة المعتبرة شرعًا.

إذ تُراعِي الصيغة الإسلامية للتعامل الاقتصادي الربحَ أو المنفعةَ؛ بحيث تَضْمَن للطرفين حقوقهما، ولكن وفقًا لهذه العوامل التي يُحدِّدها مبدأ التراضي، يغفل الكاتب أهمَّ بند من أجل رضا البائع والزبون، وهو جودة المُنتَج؛ إذ إنَّ المنفعة بين الطرفين -البائع والمشتري- لا يُمكن أن تتحقَّق إذا طُبِّقت بين الطرفين جميع بنود المعاملات الاقتصادية، مع إغفال ما يُتعامل به ضمن المعاملة الاقتصادية الواحدة من طبيعتها وجودتها وصلاحيتها للاستخدام، ويمكن التساؤل أيضًا عن ضمان المُنتج إذ إنَّ البائع مُطالب أيضًا بأن يضمن للمشتري سلعته وفقًا لسعرها.

وفي سياق آرائه حول القيمة المتوسطة، تناول تطوُّر شكل التبادل النقدي في تحوله من شكل المقايضة إلى التبادل الورقي؛ نتيجة لتعدُّد الحاجات الإنسانية وتطوُّر الإنتاج وصعوبات عملية التبادل السلعي القائم على المقايضة. ونقول إنَّ التحول إلى التبادل النقدي يُمكن أن يحل مشكلة جودة السلع المُقايَضة ويتجاوزها إلى مشكلة أخرى فيما يتعلق بالسلع؛ فلأن التطوُّر البشري اقتضَى هذا النوع من التبادل، إذن أصبح على المنتجين إنتاج عدد لا محدود من السلع مع ما يتطلبه ذلك من آلات إنتاج باهظة وكلفة عالية، وقد يلجأ المُنتِج إلى إنتاج عدد كبير من السلع بكلفة أقل، وهذا يعني جودة أقل. وبناءً عليه، يحل الدمشقي هذا الإشكال باعتبار الوحدات النقدية بحد ذاتها لا تحمل قيمة ذاتية خالصة، وإنما تكمُن قيمتها في وظائفها، إلا إذا تحوَّل الذهب والفضة إلى استعمالات أخرى غير النقود؛ إذ يَرَى أنَّ السعرَ هو الذي يُعبر عن القيمة بعدد الوحدات النقدية، ويُعزي ذلك إلى اختلاف الإنتاج وفنونه من مصنع إلى آخر، أو منتج إلى آخر، أو من بلد إلى بلد آخر. ويضرب مثالاً على ذلك باختلاف قيمة المرجان بالمشرق عن قيمته في المغرب؛ وذلك بسبب توافر المعادن في المشرق مثلاً؛ فقيمة السلعة بسبب إنتاجها من المعادن في بلدها الأصل على خلاف تلك السلع التي تُستورد لها معادنها أو موادها الخام من بلد آخر، أو تُصنَّع بمواد خام جودتها أقل.

إذن؛ قيمة السلعة -بحسب الدمشقي- تتحدَّد بتكاليف إنتاجها وبطبيعة الاشتغال عليها من صانع ماهر أو غير ماهر، وهذه أحد أهم العوامل الموضوعية في تحديد القيمة التبادلية. أما العوامل الذاتية التي تدخل في مكونات أو مُحدِّدات القيمة، فهي رغبة المشتري في السلعة بناءً على انتفاعه من السلعة من عدمه؛ وبالطبع فإنَّ البائعَ يستطيع استثمارَ هذا العامل الذاتي لصالح تجارته، فينزل إلى المجتمع ويراقب حركة أذواقه ورغائبه ومواسم الإقبال على السلع ومواسم ركود الطلب عليها.

والذي يُحدِّد مواسم الركود والإقبال على السلع هو العوامل المؤثرة في العرض والطلب، والتي يعزوها إلى الضرائب ودخل المستهلك؛ فالضرائب هي الفوائد التي تُؤخَذ من المُستلهك نتاج استخدامه لخدمة معنية أو شرائه لسلعة بعينها، وتكون قيمة الضريبة مُضمَّنة ضمن السعر. أمَّا دخل المستهلك، فيساعد زيادته على زيادة الطلب على المعروض من سلع وخدمات.

وأخيرًا.. يُريد الكاتب من عرضه لنظرية القيمة للدمشقي التوصُّل لإثبات السبق الزمني للدمشقي قبل الغرب في التوصل لنظرية التوزان بين العرض والطلب؛ من خلال العوامل التي تُؤثِّر فيهما كمحور للقيمة؛ إذ إنَّ الاقتصاد الغربي -بحسب قوله- توصَّل بعد سلسلة من الافتراضات والنظريات -بدءًا بنظرية العمل، مرورًا بنظرية المنفعة الحدية، حتى توصل أخيرًا إلى ما استنتجه الدمشقي على يد الفريد مارشَال في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي- ونحنُ هنا لا نُقارِن أسبقية فضَل على فضل بصرف النظر عن السباق الزمني أيهما سبق وأيهما لبق؛ فالمعرفة الإنسانية مُتراكمة، ويكون من سبق أو تخلف في إنتاج المعرفة قد أسَّس لرفاهية وسعادة الإنسان التي هي رفاهية وسعادة الإنسانية جمعاء؛ فبالطبع محاولة توطين آراء الأفضلية والأسبقية هي محاولات حدية من أجل توسيع الهوة بيننا وبينهم، وتجزئة المعرفة الإنسانية كما لو أنها ملِك خاص لأمة دون أخرى.

أخبار ذات صلة