المواطنيّة.. إشكالات الممارسة ومساعي التّحقق

أسماء الشامسية

في مقاله "المواطنية والسلطة والعدالة في المجتمعات المتعددة" يعطي الكاتب أنطوان نصري مسرة أهمية للتفسير اللغوي للمواطنية باعتباره مُحددا لمعناها العملي في التطبيق والممارسة أكثر مما يعطيه المعنى الأيديولوجي لها، ويَسُوق معناها اللغوي على أنّها - أي المواطنية - مُشاركة في العيش معًا وفي مسؤوليات هذا العيش، فهو ليس مجرد اشتقاق من المواطنة في معنى التعلق بالأرض والوطن بل يتجاوزه إلى ما هو أبعد من ذلك في الصفات الاجتماعية والإنسانية المُشتركة مثل أحقية المشاركة في الشأن العام من قبل المواطنين من أجل الدفع بمصلحة الجميع في الحقوق والواجبات التي تُحقق عدلاً عامًّا.

ويُحدد مسرة مفهوم المواطنية عبر تشريحه اللغوي انطلاقًا من أهمية المواطنية في المجتمعات المتعددة ومعالجة إشكالاتها، ومن أجل توضيح الالتباس القائم عن كون المواطنية التي يتسمى بها أي مواطن فرنسي أو أمريكي أو لبناني في إطارهويّة وطنية ينتمي إليها، تصبح إشكالاً في المجتمعات المتعددة باعتبارها مجتمعات متزعزعة وسهلة الانفلات في اللحمة الوطنية وأنّ حل المعضلة ليس في تعددها بل في انسجامها وفق "البناء القومي"، وهو عندما يطرح هذا الرأي الشائع عن الحل القومي يُحيله إلى الطريقة نفسها التي دمّرت بها النازية ألمانيا في بحثها عن "الحل النهائي" والانسجام المتشابه لا الانسجام المُتعدد والمتوافق.

فلقد كانت وما زالت خيارات حل أزمة المجتمعات مركبة البنية ثلاثة: إمّا الحل الجغرافي بالتقسيم أو الضم، وإمّا ممارسة الحل على السكان بالتطهير أو الإبادة أو التهجير، أو تغيير النظام من خلال المشاركة في الحكم، أو ما يُسمى "بالائتلافية" ويتضمن الخيار الأخير احتمالاً جيدًا لممارسة المواطنية.

لكنّ الإشكاليّة التي تقف في وجه ممارسة مواطنية فاعلة وحقيقية هو تجذر مفهوم "الدولة القوية والعادلة" أو "الدولة الأبويّة" في أذهان المواطنين في البلدان الاستبدادية، هذه البلدان التي يُعتقد أنّها تمتلك حلولاً جذريّة لكل مشكلاتها ويُتوقّع منها توفير جميع خدمات رعاية المواطنين وتوزيعها بشكلٍ عادل، فمعنى غياب المواطنية في حالة كهذه ألا يُعطى المواطنون الواعون والقادرون على إبداء آراء حرة مستقلة انطلاقًا من مسؤوليّتهم كمواطنين، لا يعطون الحق في ممارسة مواطنية يومية تجاه الدولة عن طريق مساءلتها والمبادرة في إبداء الرأي والنقد تجاه ما يصدر من قرارتها ومراقبة سلطتها، بل على العكس تُمارس الدولة إكراهات مُتعددة مثل كثرة إسكات الأصوات غير المتسقة مع الخطاب العام، بنشر أجهزة الاستخبارات، ولزوم تبعية أهل الحكم، بصفتها سلطة خاصة، أو باعتبارها الدولة الأب والدولة المانحة أولاً وثانيًا باعتبارالمواطنين ضمن حدودها متلقين ومستقبلين فقط؛ طالما تلزمهم هويّتهم أعني هويّتهم في الوثائق المدنية أن يكونوا ضمن هذا الانتماء للدولة، ويضرب مسرّة مثالاً على بلده لبنان إذ يستخدم الناس مفهوم الدولة ضمن استخدامات ضيّقة وفي حدود المجاملة السياسية أو المساءلة غير الواعية في أبسط المواقف فيما لا توجّه مواطنيتهم نحو الشؤون السياسية الكبرى ونطاق صياغة وإقرار السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي تحتاج إلى حسم سريع وعاجل.

وبحسب مسرة يتزامن مع مفهوم المواطنية هذا اصطلاح "الولاء الطائفي" الذي أريدَ له أن يُفهَم على نحو تبسيطي وإطلاقي فاصطلاح الولاء يتخطّى الانتماءات الاجتماعية كافّة ويُدخلها في سياق ارتباط وطني وتابعية وحماية، ما يعني أنّ من يدينون بالولاء تجاه السلطة أو الدولة تقل فاعليّتهم على ممارسة المواطنية بمعناها في المُشاركة العامة من أجل الصالح العام، وتزداد فاعليّتهم في المواقف التي تقوم على تبادل منافع وحمايتهم من الأخطارالداخلية والخارجية.

فالسؤال الذي يُطرح هنا لماذا على المواطن أن يدين بالولاء بمعناه التّبعي والانسياقي في علاقة مساومة بينه وبين الدولة؟ إذا كانت العلاقة بين الطرفين يفترض أن تكون تعاقدية ترتكز على قواعد ساهم المواطنون في صياغتها وإقرارها وتنفيذها مثلما يقول مسرّة، إلا إذا كان المواطنون أنفسهم لم يقوموا بأي دور في أي عمليّة وطنية أو سياسية لا من خلال رأي ولا من خلال مشاركة سياسية ولا من خلال أي نقد فعلي، بل اقتصر دورهم على تلقّي الدساتير والقوانين العامة التي تنظم الدولة لأنّه وفي الحالة التي يفرض المنطق فيها نفسه لا يُمكن بأي حال من الأحوال الجمع بين متضاديّن كما في لزوم إدانة المواطن بالولاء في مقابل ممارسته للمواطنية الحقّة.

ويطرح مسرّة الأخطار التي تواجه المجتمعات المُتعدّدة في ظل تغييبها للمواطنية كالآتي:

أولاً: التهديد الذي سيطال الأنظمة التوتاليتارية بسبب انتشار وسائل الاتصال الحديثة والذي من المُحتمل أن يقضي على الأنظمة هذه، ويتحتم بعدها مشاركة الناس في الحُكم، هؤلاء الذين لم يعتادوا من قبل على أي ممارسة ديمقراطية ويضرب مثلا عليها ما حصل في الاتحاد السوفياتي وبعض بلدان أوروبا الشرقية وما حدث في العراق.

ثانيًا: التمكين في التنمية بمعنى شعور الناس بأنّهم معنيون بالتنمية الاجتماعية - الاقتصادية، ومطالباتهم المستمرة بتطوير مدنهم وقراهم وعدم اعتمادهم على السلطة المركزية في التخطيط والتنفيذ لوحدها في خطط التنمية.

ثالثًا: المناعة، بمعنى تحصين المجتمعات المُتعددة الطوائف والأديان والأعراق والمذاهب من صراعات الداخل والخارج.

هذه الأسباب الثلاثة وفقًا لرأي مسرّة من أهم ثلاثة لفاعلية المواطنية وتنميتها في هذه المجتمعات وتغييبها يعني تغييب السلام الداخلي للمجتمعات وتغييب تقدمها الحضاري.

ويتساءل مسرّة عن إمكانية تطبيق المواطنية في ظل وجود الطائفية، ويعتبر أنّ الرأي السائد عن استحالة تطبيقها في ظل مجتمع طائفي رأي غير واقعي، طالما تستطيع هذه المجتمعات المتعددة التركيز على مشتركاتها أو توسيع المجال العام المشترك أكثر من التركيز على مناطق اختلافاتها.

وليس فقط الرابط المشترك ما تحتاجه هذه المجتمعات بل بحاجة إلى توطيد التواصل والعلاقات المواطنية فيها من خلال مصالح تجارية مشتركة فقد يكون عامل المصلحة عاملاً قويًّا من أجل الوحدة، بالإضافة إلى معاناة مشتركة طيلة سنوات من النزاع والوفاق والتدخلات الخارجية بشرط أن تؤدي هذه المعاناة إلى صدمة نفسية وتوبة قومية بحسب وصفه، بالإضافة إلى نمط الحياة في اللباس والمأكل والتقاليد الاجتماعية والتعلق بالحريات كقيمة جامعة لا مفرّقة، فضلاً عن المعرفة الموضوعية للأديان سعيًا للحد من المنمطات الذهنية في صورة الآخر.

ويعتقد مسرّة أن أهم مدخل من أجل تربية المواطنية في ضمائر وذهنيات المواطنين هو "الشأن العام" الذي يُرسخ سلطة راعية للمواطن لا سلطة تستغل نفوذها ضدّه وتساومه على مصائره، هذه السلطة الراعية التي من شأنها أن تنتقل تدريجيًا بالمجتمع إلى الديمقراطية، بهذه الطريقة يكون تعريف الدولة مرادفًا للخدمات المتعلقة بالهاتف والكهرباء والمياه والمعاملات الإدارية اّلسلسة، لأنّ توفّرها يوفّر للناس علاقة يومية مُعاشة متصالحة ومصلحة عامّة، بمعنى أنّ توفير الاحتياجات الأساسية - كما في تسلسل ماسلو الهرمي الذي يجعل هذه الحاجات الطبيعية أولويّات- يقود وعي الناس بالسليقة إلى الإنتاج في ميادين الحياة الأخرى والإسهام في تغذية الدولة بالأموال التي تحتاجها، خصوصًا وأنّ هذا المعنى للشأن العام يُفترَض أن يُدرَك في الدول الجمهورية أولا على عكس دول نظام الملكية المطلقة، ولكن إذا كانت الدول الجمهورية نفسها في العالم العربي لم تتوصل إلى هذا المفهوم البسيط للشأن العام النابع من التقليد الروماني، فكيف بدول الملكيات المطلقة؟ لأنّه وبناء عليه لو ترسخت هذه الروابط في البناء المشترك في الوطن المشترك، لن تتركَ مجالاً لتزعج الولاءات الأولية للفئوي والانعزالي والأممي والتقدّمي وغيرها من الانتماءات المتحزّبة التي تُقلق سلام المجتمعات المتعددة وتعيق تحقيق ونشر المواطنية داخلها.

 

أخبار ذات صلة