الأنموذج الجديد وعالم ما بعد الرأسمالية

أسماء الشامسيَّة

يفتتح الفيلسوف هانز كينج مقالته بسرد تاريخي لوقائع سياسية مُهمة أسفرتْ عن شكل العلاقات الدولية الحالي، بدءًا من سقوط إمبراطوريات الأنموذج الأمبريالي في الحرب العالمية الأولى، مرورًا ببزوغ فجر الأنموذج الجديد ممثلا في الفاشية والنازية -النموذجين المهزومين في الحرب العالمية الأولى- وانتهاءً بنهوض مارد الستالينية في الحرب العالمية الثانية، وما خلفته من كوارث فظيعة، استتبع ذلك تأسيس عُصبة الأمم المتحدة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، وإعلان حقوق الإنسان، قبل أن يعترض هذا النظام الستالينية وتقسميها للعالم إلى ثنائية شرق/غرب.

كانتْ الفرصة الأخيرة لتأسيس سلام عالمي بحسب كينج عام 1989، على يد الثورة السلمية في أوروبا الشرقية، وانهيار شيوعية الاتحاد السوفييتي، وإعلان النظام الجديد على يد جورج بوش الأب، الذي وإن بدا في مظهره محاولة للتوفيق بين المشكلات التاريخية والسياسية وقتها، إلا أنَّ النظام العالمي الجديد هذا اكتنفه الغموض وفقد شفافيته وووضوحه والتبس على المراقبين؛ مما قد يمكن أن يسفر عنه؛ وبالفعل لقد أُسِّس هذا النظام لتأزيم أكبر في العلاقات؛ فهو الذي دمَّر العراق ولم يُرسِ أي ديمقراطية في الكويت، وأسهم في تعميق الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي واتساع هُوَّة الفجوة بين الشرق والغرب أكثر فأكثر، فلقد تم استبدال الإصلاحات بظهور أنظمة دفاعية متطرفة كالقاعدة وطالبان تزعم محاولة حماية حدودها وأقاليمها من الاحتلال، وثقافتها من التغريب، وترسيخ وجودها بالعنف على الجميع؛ بمن فيهم مَنْ يزعمون حمايتهم من المدنيين. ولقد أصبح ما يُسمى "الحرب ضد الإرهاب" شماعة اختراق الولايات المتحدة للشرق الأوسط بكل وسائلها: السياسية، والعسكرية، والاقتصادية.

ومن هُنا، يتساءل كينج عن التبشير بهذا بالنظام العالمي الذي يُثبت فشله في كُل محاولة لتنصيبه حسب المرحلة وحسب الأيديولوجية، ويدعو إلى محاولة العمل معًا بين مختلف المدينين بأديان من أجل النموذج الجديد الذي يدعو إليه. ولكن: ما هو هذا النموذج الجديد؟ وما هي قاعدته التي يتأسَّس عليها إذا كان جميع مُعتنقي الديانات الإبراهيمية وغير الإبراهيمية يتوجَّب عليهم مساندته؟ ولماذا كان على كينج أن يضع الأديان أولاً كخط رئيسي لتأسيس هذا النموذج؟ ولم يضع الدول أو الطوائف العرقية خطه الرئيس؟

... إنَّ كينج يجد في نشوء حركات حقوق الإنسان ما بعد مرحلة الإمبريالية -مثل: حركات السلام وحقوق المرأة والبيئة بين الكنائس المسيحية وبقية الديانات- استظهارًا لحالة الحوار والتعاون والتكامل بين عوالم العالم المصنفة أصلا إلى عالم أول وثانٍ وثالث، ولكن لا يمكن أن يبرد هذا الصراع في ظل الاعتراف بهذا التصنيف بين العوالم.

وإذ يُعرِّف كينج الأنموذج الجديد إجابةً عن تساؤلاتنا بأنه سياسات التوافق الإقليمي والتفاهم والتعاون، بدلاً من السياسات القائمة على المصلحة الذاتية، هذه السياسات التي تفترض وجود شركاء منافسين لا أعداء وتتحرك إلى جانبه الأديان باعتبارها مصادر محتملة للإثراء لا مصادر تهديد، هذا الأنموذج مشروط بفهم عصري ومتزن للأديان في صورة ما يُسميه بـ"الخُلق العالمي" الذي يؤلف بين مختلف المصادر الدينية والفلسفية المشتركة للجنس البشري. والمسؤولية في الأنموذج الجديد ليست مسؤولية جماعية وحسب، بل مسؤولية كل فرد صاحب نفوذ وسلطة وقرار، وكل فرد حسب موقعه في المجتمع.

وأرى أنَّ المبادئ العامة التي يضعها كينج في الأنموذج الجديد في محاولة توطين مجتمع عالمي سوي -إن صح تسميته- فكرة مثالية بالدرجة الأولى؛ إذ إنَّ هذا الأنموذج يتضمَّن دستورًا خاصًا به، مدعمًا بقوانين تحميه وتعينه على الرسو في أرض الواقع، بل وحتى في ظل وجود هذه القوانين ثمة اختراقات وتجاوزات تحصل على مرأى العين، بل وتقوم بها الدول نفسها التي تُشارك في الأنموذج الجديد، لكنَّ كينج مع ذلك لا يعوِّل على القانون كليًّا وإنما فرض هذا الخُلق العالمي يجب أن يتم إشاعته بـ"الوعي العام"، ويتم استخدام القانون عندما يلزم الأمر في حالة رفض الدول الشريكة توقيع عقوبة بمؤسسة ما متورطة بإحدى الجرائم.

وأخيرًا.. يطرح كينج رؤية بديلة -دعونا نقل إنها رؤية واقعية للسلام- يتساءل عبرها عن الالتزام الدولي الذي يتعيَّن اعتناقه في ظل وجود إدارات سياسية مثل إدارة بوش الابن التي قامت بمعارضة اتفاقيات سلام واتفاقيات بيئية.

وهو من أجل أن يصل إلى حلٍّ لهذه الرؤية، يضع الأديان في مُقدِّمة المسؤولية، مطالبًا إياها بعدم التغاضي عن نقد الفعل السياسي الذي ينافي صيغة السلام، ويضرب أمثلة من الكُتب المقدَّسة على عدالة هذه النصوص في ترسيخ العدل والسلام ورد الظلم وشجبها للعداوة والبغضاء، وربما ما يُلفت النظر -وقد يُبدي تحفظا لدى القارئ العربي- هو استشهاده بآية "وإذا جنحوا للسلم فاجنح لها"، وذكر أنَّ هذه الآية موجهة إلى المقاتلين الفلسطينيين الذين لا يزالون يريدون محو إسرائيل من الخارطة، ويحاولون تخريب مبادرات السلام.

إذ إنَّ هذه الرؤية ليست مُستغربة إطلاقًا في ظل دعوته لسلام عادل وموازين متكافئة، نستنج أن هذا السلام يتضمن أول ما يتضمنه استبعادَ أي شكل مسلح أو فعل تهجير أو فعل إبادة، لكنه مع ذلك وفي حالة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لم يذكر لنَا ماذا يُمكن أن يفعل الأنموذج الجديد للماضي الذي صاحبته حقوق مهدرة،و أراضٍ مسلوبة، وأرواح مزهوقة، هل يضع الأنموذج الجديد الفلسطينيين والإسرائيليين على مائدة واحدة ويطلب من الطرف الضحية المغفرة؟ ألن يستتبع ذلك انتزاع حقوق أو استعادة لمنهوب بالتراضي؟ وهل من حق العرب بل والمتعاطفين في أنحاء العالم في النموذج الجديد اعتبار القضية الفلسطينية قضيتهم أيضًا، أم هي قضية الفلسطينيين وحدهم؟ لأنَّ ذلك سوف يستتبع مبادرات سلام توفيقية ودعما وتضامنا سياسيا ودبلوماسيا حتمًا.

لم يتحدَّث كينج عما يمكن أن يصاحب الأنموذج الجديد؛ مثل: انهيار الرأسمالية مثلاً، وظهور نموذج مختلف؛ فالرأسمالية -حسب كتاب "هل للرأسمالية مستقبل؟"، لمجموعة من المؤلفين- هي "تشكيلٌ مُحددٌ تاريخي للأسواق وبنيويات السلطة؛ حيث يكون الربح الاقتصادي الخاص بأي وسيلة ممكنة هو الغاية العليا والمقياس الأمثل للنجاح". وإذَا ما وضعنا هذا التعريف للرأسمالية مقابل أنموذج كينج، فهل ستتخلق كُل تلك الرؤى التي تفترض وجود توازن سياسي واقتصادي بالحوار بين الأديان أولاً من أجل سلام بين الأمم وبإنهاء التصنيف بين العوالم الثلاثة؟

فموقع الفرد -كما نعلم- ضمن الآلة الرأسمالية، يفترض منه أن يدور في أحد تروس هذه الآلة، مُضحِّيا بكل ما يملك من أجل تحقيق أقصى ربح للآلة الكبيرة، وهذا النوع من التنظيم الاقتصادي والسياسي يُصاحبه شعور بالغُبن والقهر والاستلاب، ويمكن معه حدوث ثورات غير محسوبة لا سلام مطمئن.

وأعتقد أنَّ تحديد بديل الرأسمالية من الصعوبة بمكان التنبوء به؛ لذلك تجنب تحديد معالمه من قبل كينج تجنبًا موفقًا؛ لأنَّ ذلك سيضعه في موقف صعب يلزم معه تحديد البُنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لأنموذجه؛ مما سيزيد الأمر تعقيدًا؛ لذلك دعوته لتنظيرات الحوار والسلام أكثر حكمة من تحديده للإطار العالمي الذي يتحركان عبره. وأختمُ بآراء بعض المنظِّرين والمراقبين في هذا الشأن؛ مثل: إيمانويل والرستين قوله "إنَّه يستحيل جوهريا أن نتوقع بما سيحل محل الرأسمالية؛ فالبدائل ستكون إما نظامًا غير رأسمالي، لكنه يستمر بتوظيف السمات الهرمية والاستقطابية للرأسمالية، وإما نظامًا ديمقراطيا قائمًا على التساوي نسبيا". فيما يعتقده كلٌّ من كريج كالهون ومايكل مان "أن تتحول الرأسمالية إلى شكل اشتراكي اجتماعي أكثر لطفًا من العولمة"، ويعتقد جورجي ديرلوغويان "أن ما يأتي بعد الرأسمالية لن يشبه أبدًا النمط الشيوعي؛ لأن الظروف التاريخية التي مهدت لقيام الاشتراكية المحصنة على الطراز السوفييتي بأبعادها الأيديولوجية والجيوسياسية ذهبت إلى غير رجعة".

أخبار ذات صلة