أسماء الشامسية
في مقاله "التجديد في الفكري الإسلامي" يبدأ معتز الخطيب في تفكيك المعضلات التي ينطوي عليها عنوان بحثه أولاهما التجديد بوصفه مفهومًا إشكاليًّا ومن ثم الموضوع "الفكري" في التجديد عبر سؤال ماذا نريد أن نُجدد؟ ما الموضوع الفكري في الخطاب الديني الذي ينبغي تجديده؟
ويُقدّم الخطيب مشروع التّجديد بوصفه حركة تاريخية متراكمة تعكس تفاعل الفكر مع العصر ومنجزاته وقضاياه وأسئلته لا تتم بمعزل عن التاريخ والتجربة إنّما من خلالهما وعبرهما.
يشرح الخطيب بدء توطين مفهوم التجديد في الخطاب الديني عندما أثير المفهوم لأول مرة في خطاب أحد الساسة الغربيين مرورًا بانتشار الكتابة عنه ومناقشته إعلاميًّا وصحفيا وانتهاءً بانخراط بعض المؤسسات الدينية الرسمية في هذه الموجة عبر تبنيه واعتباره ضرورة من الضرورات.
وبحسب الخطيب فإن مظاهر التجديد التي وقعت عليها تلك المؤسسات الدينية لا تذهب أبعد من تغيير الأشكال التي توجّه بها الدعوة إلى الإسلام واستحداث تقنيات دعوية جديدة جاهزة بنفس مظاهر العصر الحالي ولكن دون إحداث تغييرات جوهرية في فهم الخطاب الديني.
أمّا الخطاب العلماني فقد طالب بخطاب يقف إلى جانبه ويؤازر مقولاته وينحو إلى علمنة الإسلام عبر تفكيك المسلمات الدينية.
ويرى الخطيب أن ذيوع المفاهيم والصور إلى الحد الذي قد تتحول فيه إلى مفاهيم إعلامية أو شعبية يؤدي إلى إفقارها مضامينها كما هو الحال مع مفهوم التّجديد الذي أخذ حقه جماهيريا منذ أطلق لأول مرّة مما أدى إلى اختلاط المفهوم وتكييفه حسب كل تيار وتوجهه، بعبارة أخرى ما يسميه الخطيب بالمفهوم المخاتل الذي تتقاطع فيه رؤية التيار الإسلامي والعلماني للمفهوم مع الرؤية الغربية من جهة حصر كلا التيارين للتجديد بثنائية التسامح والإرهاب.
وهذه الثنائية اجترّت إشكالية التجديد إلى إصلاح منظومة مناهج التعليم الديني (الإسلامي)، فهو يرى أن خطاب تطوير المناهج هذا جاء باعتبار المناهج مصدر العنف والإرهاب بعيدًا عن الأسباب المعرفية والمشكلات التربوية التي تم اكتشافها حديثًا.
ولكن بروز مسألة الهويّة في مواجهة التّجديد هو ما يجعل "التجديد" إشكالية ذات تعقيد مركب، فشعور الذّات الإسلامية بالخَطر في ظل العولمَة وتماهي الهويّات والثقافة الواحدية - أو القطبية - التي يسوق لها النظام العولمي يجعل تيّارًا ثالثًا وهو الخطاب الفقهي التقليدي يعتقد أنّ التجديد يُهدد ثوابته وأصوله (القرآن والسّنة) ويُصوّر محاولات التّجديد بمثل محاولة الإتيان بقرآن جديد وسنّة جديدة أو البحث عن مصادر أخرى غير هذه المصادر بحسب تعبير الخطيب.
ورغم المثال الذي يضربه الخطيب لمحاولات بعض الفقهاء مثل السيوطي والحافظ ابن حجر نَقد التقليد والتّحرر من القيود إلا أن نقدهما أيضًا حوصر في نسق مغلق وتقليدي بسبب السياسية و الإبستمولوجية السائدة في زمانيهما.
إنّ مسخ مفهوم التجديد حسب ما بينه الخطيب في مقاله عائد إلى "التّقليد" الذي يساوي بين الدين والذّات في التراث الدّيني، فنقد التراث الديني من خلال أي محاولة تجديد هو نقد للذات بالضرورة، ويُقدّم نفسه باعتباره تجربة معرفية إيمانية قائمة على تصّور العصور الأولى باعتبارها عُصور مُباركة ينبغي أن يخرج أي تَجديد من رحم تلك المرحلة، وهذا مما لاشكّ فيه يؤدي إلى تخلخل التوفيق بين المرحلة الآنية وسابقاتها من المراحل من مختلف النواحي، فكيف إذن يُعاد تأسيس أي خطاب تجديدي؟
إن معتز الخطيب انتقد تقريبًا جميع أشكال التجديد واعتبرها إمّا مجتزأة أو تلفيقية أو تدويرية، أي تعيد تدوير التراث، كالطريقة التلفيقية الإصلاحية التي جاء بها محمد عبده، و طريقة التفكيك الحداثية التي على شاكلة جناية البخاري، وأضيفُ إليها محاولات تفكيك محمد اركون وأدونيس، وطريقة التأصيل الإحيائية على يد مدارس التقليد، فيما لم يُقدّم لنَا الخطيب ما يمكن اعتباره شكلاً تجديديًا رابعًا على وجه التفصيل والدّقة. إنّ الضرورة المعرفية والعصرية لمراجعة العلوم الإسلامية في رأيه تقوم على أساس معرفي وتتعامل مع التراث بوعي نقدي، وأنّ الحكم على العلوم الإسلامية يتم أولاً عبر وعي تاريخي، وإذا تساءل مُتسائل عن هذا الوعي التاريخي فسيكون بحسب تعبير الخطيب هو "معرفة التراث بكل تشكيلاته وتلويناته معرفةً عميقة وبالتاريخ المُحيط بتشكّله وعلاقته بتطورات المجتمعات المعاصرة سياسيا واجتماعيا ومعرفيًّا" وهو يعتبر سلك هذا المنهج شرطا أساسا للبناء على التراث واستكماله.
برغم أنّ الرؤية الجديدة التي يحاول الخطيب التأسيس لها - إن صح تسميتها كذلك - غير واضحة منهجيًا ولا بنيويًا إلا أنني أخمّن رؤيته بمعنى الإحاطة بالإشكال التاريخي باستخدام مصادر التراث نفسها والاستفادة من العلوم "النقليّة" لا بتجاهلها أو تفكيكها عبر العلوم الحديثة، وهذا ما يدفعني للتساؤل عن النموذج الذي يتبنّى هذه النّظرة المُمهدة لتجديد التراث، هذا التّجديد الذي لم يضع له تعريفًا اصطلاحيّا كي نتفهّم رؤيته الجديدة في فهم التراث وغربلته، أمّ أنّه ليس ثمّة نموذج يتبنّى هذه الرؤية.
بالطّبع يُقدم الخطيب دراسة "السلطة في الإسلام" لعبد الجواد ياسين أحد هذه الدراسات القليلة التي تتقاطع مع منهجه، وعبد الجواد ياسين أيضًا لا يخرج عن أعلام الإصلاحيين المعاصرين، إلا أن محمد عابد الجابري أيضًا من أهم الأعلام التي حاولت إنقاذ الفكر الإسلامي من الاجترار وإعادة قراءة العقل العربي عبر سلسلته النقدية "نقد العقل العربي"، وإن كان الخطيب بالطبع لا يتّفق مع المناهج التفكيكية على رأسها تلك التي تبناها أركون في نقده لأسس العقيدة الإسلامية واشتغاله على الحفر في الطبقات المتراكمة للتراث العربي الإسلامي، وإذا كان الخطيب يعول بشكل أساسي على ضرورة الوعي التاريخي في سياق معالجة التراث الإسلامي فإنّ أركون وإن اختلف معه كثيرون قد عرّى صفة القداسة من النصوص الدينية في سبيل تبيان حقيقته التاريخية في إطار "تفكيك المسلمات التاريخية"، وأقول إنّ الخروج برؤية تجديدية - وإن كنت أتفق مع الكاتب - أنها لابُد أن تنشأ من التراث نفسه وعبره، إلا أنها لا بد أن تنشأ من خلع صفة القداسة عنه أولاً ومواجهته كشيء موضوعي كي لا تخرج النتائج ضمن حدوده وسياقاته الضّيقة.
