الفجوة الرقمية للمخطوط العربي !!

أيمن البيماني

إنّ مما لا شك فيه أنّ ثنائية الحرف/الرقم أصبحت ضرورة ملحّة لتحقيق أي وجود حضاري ملموس في الوقت الحالي، ونرى السباق الغربي في هذا الشأن واضح الملامح. إلا أنّ الأمة العربية لم تستجب لهذه الضرورة، والدليل على ذلك أنّ هناك فجوة رقمية (الرقم) كبيرة للمحتوى (الحرف) العربي على الإنترنت، ولا يمثّل المحتوى العربي أكثر من 1% من إجمالي المحتوى الكامل للشبكة العنكبوتية!! وعلى الرغم من عظمة التاريخ العربي وامتلائه بالمخطوطات؛ فإننا لا زلنا بعيدين كل البعد عن رقمنتها وتحويلها إلى صيغة رقمية حية، ولم تتجاوز جهودنا مجرد مراجعتها وتحقيقها ورقياً. وهنا نسرح مع الكاتب (فيصل الحفيان) مع مقاله المنشور في مجلة التفاهم بعنوان: "المخطوط العربي والرقمنة: الواقع والآفاق".

لقد مثّل الرقم مصطلح (الرقمنة)، فيما تبنّى الحرف مصطلح (المخطوط). وهنا نرى أن عنوان الكاتب في مقاله مثّل مفارقات مهمة كالتالي:

1. إن هناك ثنائية مزدوجة في العنوان وهي: المخطوط-الرقمنة، الواقع-الآفاق. إننا دائماً ما نجعل حياتنا ومقولاتنا في مفارقات ومواجهات ثنائية سواء بين الماضي والحاضر، التراث والجديد، الواقع والآمال المستقبلية.

2. المفارقة الأخرى هي "نحن" بأنفسنا، حيث أن التراث (تراثنا) في الماضي جوهره (نحن)، وهذه الـ "نحن" شهدت غياباً حضارياً واضحاً في الوقت الحاضر، وبالتالي إنجازها في الماضي وغيابها عن الحاضر.

3. إننا أمة حضارية تراثية بامتياز، ولكننا خارج العصر الحالي بامتياز أكبر. إنّه لا سبيل ولا مجال لأي أمة أن تنفصل عن تراثها الماضي ، لأنّ تخلّي أي أمة عن تراثها يعني أن تبدأ من الصفر، والتراث ليس إنجازات مكتوبة فقط؛ بل رؤية خاصة للحياة والكون والإنسان، وبالتالي هو وسيلة مهمة للالتحاق بالركب العالمي والنهوض الحضاري في الوقت الحالي.

4. مفارقة الواقع والآفاق هي نظرة إلى واقع مخطوطاتنا العربية وعلاقتها بالرقمنة الحديثة، وذلك من حيث تحويلها من نصوص جامدة ساكنة على الأرفف إلى أرقام وأشكال رقمية متحركة سهلة الوصول إلينا ومتفاعلة معنا.

ولكن ما هو "المخطوط" وما هو مفهومه؟ إن أبسط تعريف للمخطوط هو (الكتاب المكتوب بخط اليد). ولكن هناك لبس في هذا المفهوم بطبيعة الحال، فكل مخطوط يتكون من عنصرين رئيسين: عنصر الجسم الملموس -الكيان المادي-، والآخر عنصر النص أو المعرفة.

إنّ النص هو الذي ألّفه المؤلف بصورة أساسية ولا يتغيّر أبداً إلا في حالات التحريف والسرقة، ويُسمى العلم الذي يختص بدراسة النص الأصلي وتحليله ونقده بعلم التحقيق (الفيلولوجيا Philology)

أما من حيث الوعاء والكيان المادي فإن عناصر هذا الجسم من ورق ومداد وجلد داخلي وخارجي وغلاف ملموس وكل ما عدا النصوص التي صدرت عن المؤلف الأصلي مثل الحواشي والافتتاحية والخاتمة والتي يطلق عليها إجمالاً بـ "خوارج أو بيئة النص"، وهي مواضيع يدرسها علم المخطوطات الذي يطلق عليه مصطلح (الكوديكولوجيا Codicology).

إن مصطلح "الرقمنة" مفهوم حديث العهد لم تعرفه البشرية إلا في سبعينات القرن الماضي، وظهرت بعدها فضاءات الشبكة المعلوماتية "الإنترنت" في التسعينات. إن هذه الوساطة الرقمية أصبحت تجتاح المؤسسات العاملة في مجال التراث بشكل كبير للغاية، وبالتالي هي ليست وسيطاً للمفاهيم الحديثة؛ وإنما أيضاً وسيطاً لتاريخٍ وماضٍ موغلين في القِدم. ولكن اللقاء بين المخطوط والتقنية -الرقمنة- يثير الكثير من الأسئلة والحوارات حول العلاقة بينهما كالتالي:

1. إنّ المخطوط بكيانه المادي ونصه هو كائن قادم من الماضي، والرقمنة تنتمي لعصر الحداثة، وهي قفزة وواسعة وكبيرة للغاية. ولكن التراث سيبقى تراثاً بكلّ تفاصيله الزمانية والفكرية والتاريخية، والرقمنة ستضلّ وعاءً وقالباً حداثياً. إذن هل سيكون هناك تعارض بين التراث والحداثة؟

2. إنّ المخطوط في أساسه يحمل نصاً لغوياً، والرقمنة هي فلسفة الرقم، وهنا نرى أن عملية رقمنة المخطوط تعني صب النص في قالب الرقم. وبما أن (فيثاغورث) يرى أن كل شيء في الكون هو (رقم)؛ فإن عملية توظيف هذا الرقم لتفسير الحرف، أو تحويل الحرف إلى رقم لتستوعبه الآلة الحديثة؛ هل سيُفقِد الحرف هويته التاريخية والتراثية؟

3. إن غرض الرقمنة هو الحفظ والإتاحة، بينما المخطوط بمفهومه الكامل عمل جبار متكامل وتعاون مشترك بين الباحث والكاتب والناسخ والمحقق وغيرهم، فهل ستُلغي عملية الرقمنة جهد العمل المتكامل للمخطوط الأصلي؟

4. إن مفاد عملية الرقمنة -كما أسلفنا- هو تحويل الحرف إلى رقم لتستوعبه الآلة وهو عمل يقوم به شخص واحد في عملية آنية -حالية- لا ترتبط بمكان، بينما المخطوط له خصوصية الزمان، والمكان، والكاتب، والناسخ، والناشر، وهو عكس عملية الرقمنة الحديثة. وبالتالي هل سيكون اللقاء بين الرقمنة والمخطوط لقاءً شكلياً فقط؟

إن للرقمنة وظائف كثيرة ومتعددة ومهمة للشيء الذي نقوم بتحويله إلى صورة رقمية، ومثالنا هنا التراث والمخطوطات. إنّ من أهم مهام الرقمنة هو التوثيق الحديث بمعنى حفظ الشيء والإبقاء عليه ورعايته وضمان استمراره وعدم تلفه، وهو ما يفسّره إنشاء العديد من المراكز العالمية والمؤسسات والهيئات المعنية بـ (توثيق) التراث ورعايته.

كذلك فإن الرقمنة وفرت الإتاحة للمخطوطات والتراث بشكل عام، فبعد أن كانت حبيسة الجدران وتحتاج إلى وقت وجهد للوصول إليها والحصول عليها؛ فإن الرقمنة تمكّنك من الولوج إلى عالم المخطوطات من خلال جهازك وأنت جالس في مكتبك أو منزلك، ومطالعتها أو نسخها دون أي جهد يذكر، وبالتالي أتاحت الرقمنة المخطوط وجعلته شيئاً ديموقراطياً مُتاحاً للجميع.

كما أصبحت الرقمنة وسيلة سهلة وعملية لأغراض البحث والتحقيق بالصورة الرقمية، حيث سهّلت للباحثين والدارسين والمحققين أعمال دراسة وتحقيق وسبر أغوار تلك المخطوطات من خلال أجهزة وبرامج رقمية تساعدهم في المقارنة والبحث والتحليل الإحصائي ومعالجة النصوص، ورصد ما يوجد بها من ظواهر لغوية ومعرفية بطرق رقمية غاية في السهولة.

ولا نغفل عن انخفاض التكلفة، فالنسخ والحفظ الرقمي أسهل وأرخص من الورقي بكثير. كذلك اقتصاد المكان، فقرص رقمي صغير يُغنيك عن عشرات الأرفف والمخازن وأماكن الحفظ والتخزين الورقي. ولا ننسى كذلك توفير الوقت والجهد، بحيث يصل المحتاج إليه بكل سهولة ويسر. وهنالك أيضاً اقتصاد الترف الذي يلبّي حاجاتك، فالنصوص الرقمية تلبّي حاجة (العين)، والنصوص المسموعة تلبّي حاجة (الأذن)، وغيرها من حالات التفاعل الرقمي التي يندمج فيها الإنسان مع النص.

ولكن رغم ما ذكرناه من فوائد عظيمة للرقمنة؛ فإن هناك هوامشَ لا بدّ من مراعتها كالتالي:

  • مهما وصلنا إلى حالات الحفظ والتوثيق الرقمي؛ فإن تلك النسخة الرقمية لا تُغني بطبيعة الحال عن النسخة الورقية الأصلية. وجرّب أن تقراً كتاباً رقمياً ثم اقرأه ورقياً وانظر للشعور الذي ينتابك مع ملامسة يدك للنص الأصلي الورقي بدل المنسوخ الرقمي.
  • إنّ المخطوط الرقمي هو مجرد نسخة افتراضية لنسخة حقيقية ملموسة، تلك النسخة الرقيمة توفّر لنا النص والألوان والزخارف وغيرها، ولكنها لا تُغني في علم المخطوطات (الكوديكولوجيا Codicology) كما أسلفنا الذكر عن التعرّف على نوعية الورق والحبر المستخدم، وتركيب الكراسات وربط الفصول والدراسات الحفرية للمادة الفيزيائية الملموسة للمخطوط.
  • تساعد الرقمنة في تحقيق المخطوطات رقمياً بشكل أبسط وأسرع، ولكن لا بد من أخذ الحيطة والحذر في عملية التحقيق الآلي وما قد يشوبه من أخطاء رقمية.

ختاماً، لا زلنا -العرب والمسلمين- نُعاني من فجوة رقمية كبيرة لخّصها (نبيل علي ونادية حجازي) في كتاب (فجوة الفجوات)، وهذه الفجوة الرقمية هي متسلسلة في عدم القدرة على النفاذ إلى مصادر المعرفة واستيعابها، ثم توظيفها وإعادة توليدها من جديد، إذ لا يكفي لنا رقمنة تراثنا ومخطوطاتنا، فالأمر يتعدّاه إلى إلى فهم ذلك الحتوى، واستيعابه وتوظيفه في حياتنا، ثم محاولة توليده من جديد وإتاحته بصورة أسهل وأسرع لكل من يحتاجه بكل سهولة ويسر، وهو السبيل المُفضي إلى وجود حضاري متميز وقوي وجديد.

 

أخبار ذات صلة