أيمن بن عبدالله البيماني
لقد بدأ النقاش المعاصر حول موضوع "الخير المشترك" منذ حوالي الحرب العالمية الثانية، وكان نقاشًا سياسيًّا اجتماعيًّا. وهو يعتبر امتدادًا ثقافيًّا لنقاش قديم بدأ منذ فترة طويلة عند اللاهوت والكاثوليك والعديد من الفلاسفة عبر قرون خلت، وكان نقاشًا اجتماعيًّا لاهوتيًّا وسياسيًّا لاهوتيًّا. ولقد أصبح موضوع "الخير العام" أو "الخير المشترك" أو "المصلحة العامة" محط اهتمام وتقاطعا نقاشيا وفلسفيا مهما في عصرنا الحالي. وهذا ما سنناقشه لمقال محمد الشيخ "النِّقاشات الفلسفيّة المعاصرة حول الاجتماع السِّياسي والخير العام"، والمنشور في مجلة "التفاهم".
فلقد أصبحت المذاهب السياسية/الاجتماعية اليوم تحوم حول ثلاث توجهات؛ الأول: يرى أن الخير المشترك عفى عليه الزمن مع زمن النزعة الفردية والليبرالية، والثاني: يوجه المجتمعات بضرورة الأخذ به والاعتماد عليه، والأخير: مجموعة من الليبراليين الذي يتوجهون تحت مظلة "حيادية الدولة" والتي قد تسمح بتعايش جملة من التصورات حول الخير المشترك، ولكل مذهب تصوره الخاص عنه.
وقد نبَّه الباحثون المعاصرون إلى أن مصطلح "الخير المشترك" هو مصطلح قابل للتأويل والتوظيف الأيديولوجي، وغامض ومشوش، حيث يسلّم به البعض ويشكك به الآخر.
بدأ النقاش في كندا وأمريكا، وامتد لاحقا إلى أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، والذي بدأه الفيلسوف الديني الكندي "شارل دو كونينك" بعد تأليفه لكتاب "أولوية الخير المشترك"، والذي هاجم فيه جماعة "الفلاسفة الشخصانيين". انطلق شارل من ملاحظة أن الكثير من الأنساق الفكرية أعلت من قيمة الأنساق، لكنها انتهت بأنظمة شمولية كالماركسية، فيما تساءل شارل عن إمكانية الدفاع عن كل نظام يحمل شعار "الخير المشترك"، والذي أجاب فيه بصعوبة الدفاع كون بعض الأنظمة تتخذ ذلك الشعار من أجل استعباد بعض الأشخاص، والذي يتنافى مع فكرة الخير المشترك. ومثل ذلك الأنظمة الدكتاتورية كالشيوعية والفاشستية المنافية للخير المشترك.
لذلك؛ يُؤكد شارل أنَّ الجماعة تتألف تحت غمرة الخير المشترك وليس الخير الشخصي، وهو ما تؤكده مقولة "الإنسان اجتماعي بطبعه"، ولا خير في استقلال الفرد عن الجماعة أو المجتمع الذي يعيش فيه، ولا خير في التعلّق بالخير الفردي الخاص، وإنما الخير المشترك الذي هو روح الجماعة وأساس ترابطها.
فيما رأى الأب أيشمان أنَّ هناك تعارضا بين اعتبار الرب هو الخير المشترك الأسمى؛ وذلك لاعتبار أن أي شيء يخلقه الرب ما عاد هو الشخص الروحي، وإنما هو الخير المشترك؛ لذلك فإنَّ من شأن التسوية بين الرب والخير المشترك كما فعل شارل دو كونينك أن ينتهي إلى اختزال الربّ في عليته في خالقيته للكون لا في حقيقة ذاته. ويرى الأب أيشمان أن تصوّر شارل دو كونينك للخير المشترك هو تصوّر توتاليتاري، وذلك لأنه يأخذ برأي أن كرامة الأشخاص تقاس عنده بحسب استقامتهم بالنظر إلى نظام الكون لا على نحو مطلق (كرامة الكائنات الأكمل في هذا العالم).
إبان الحرب العالمية الثانية؛ انتقل النقاش من الأب شارل إلى ابنه "توماس"، وأول ما انطلق منه الابن توماس: "هل يمكن أن ندافع في الوقت نفسه عن كرامة الشخص وعن أولوية الخير المشترك على ما قد يبدو في ما بينهما من تنافر؟".
وحسب تفسير توماس ونظرته أنَّ الاعتراف للشخص البشري بالكرامة وبتابعها، أولوية الخير المشترك، يمكن في الواقع أن يقف سداً منيعاً ورادعاً ضد الفظاعة التوتاليتارية، مع الاهتمام بضرورة تكوين فكرة صحيحة عن كرامة الإنسان وعن الخير المشترك، واللذان هما في الأساس يقودان لبعضهما البعض. حيث إن رسالة وكرامة الإنسان هو تبادل الخير والمصالح مع غيره لا نبذه، وأن أعلى مراحل الكمال الإنساني يتمثل في تشاطر الخيرات بين البشر.
امتدَّ النقاش حول الخير المشترك إلى ثمانينيات القرن الماضي، وأثار الفيلسوف الأمريكي "جون رولز" نظريته ورؤيته للعدالة التي تترك الأفراد في شأنهم وتصوراتهم للخير، دع هؤلاء وشأنهم وهو وشأنه، وأكّد على أولية مبدأ "العدالة" على "الخير".
وقد خالفه الفيلسوف الأمريكي ميخائيل صاندل، والذي يرى أن التصور الليبرالي للعدالة والحقوق لا ينظر إلى مشاركة الأفراد للخير مع جماعتهم السياسية والاجتماعية، ويرى صاندل أن العدالة والحقوق لا توفر وحدها الشروط التي تجعل شعبا يسعى للحياة الطيبة أو الخير المشترك فيما بينهم.
أما الفيلسوف الأمريكي ميخائيل فالتزر، فقد انتقد فكرة رولز، واعتدَّ في كلامه أن أي مجتمع مهما كان موقعه أو نوعه؛ هو مجتمع عادل إذا تشاطر أفراده موضوع الخير المشترك وفق قيمهم المتشاطرة. لكنه أكّد داخل مجتمعات الخير المشترك قد تنبت أفكارا مخالفة للطبيعة البشرية كتسويغ العبودية مثلا، ودعا إلى تمييز المعايير الخلقية التي تتبناها جماعات الخير المشترك بين الرقيقة والسميكة.
دافع بعض منظّري السياسة منذ تسعينيات القرن الماضي بأن المساواة والديمقراطية والمواطنة تُمكّن أعضاء المجتمع من إحساس مشترك بالانتماء فيما بينهم. ثم طُرِحَ نقاش مضمونه كيف يتم تحديد الخير المشترك؟ هل بالانتخابات أم بالتداول؟ وكيف يمكن ضمان عدم نزوع المصالح الشخصية إلى تأطير موضوع الخير المشترك في مجتمع ما؟ أشار الفيلسوف الأمريكي "يوشع كوهن" إلى أن الفوارق في السلطة وفي الثورة إنما من شأنها أن تقلل من أمر أفق تحقيق "الخير المشترك" عبر النقاش العمومي. فيما رأت الفيلسوفة البلجيكية "شانتال موف" أن من طبيعة السياسة التنازع، وأن "الخير العام" يلزم نفسه أن يكون موضع جدل ومراجعة. بينما لدى الفيلسوف الأسكتلندي "ألسدير ماكنتاير" نظرة تشاؤمية حول سياسة الخير المشترك، وأنه يجب أن يتشاطر الناس التزاماً بترتيب أولويات خيراتهم الفردية والجماعية عبر "التعلم المشترك".
ورأت مجموعة من الآراء أنَّ السياسة بطبيعة الحال هي السعي للخير المشترك، ولكن المشكلة تكمن في التعريفات المتنوعة للخير المشترك، وكذلك تنوع طرائق السعي إلى الخير المشترك وطبيعتها، وما يزيد الأمر سوءًا أن بعض رجال السياسة اليوم باتوا منشغلين بالتدبير اليومي أكثر من الاهتمام بالخير المشترك للجماعة أو الأمة. وعلى عكس رولز؛ يرى "هانس سلوغا" أن العدالة هي خير كبير تسعى السياسة الحديثة إلى تحقيقها، ولكنه يتفق مع رولز في أن السعي إلى الخير المشترك أصبح أشد إشكالا من قبل، وذلك بسبب عجزنا عن الاتفاق على هذا الخير المشترك، وذلك بسبب إيمان البعض بالفردانية وبالإشباع الفردي.
لقد أصبحنا نشك في إمكان الاتفاق على خير مشترك، وأسوأ منه أننا أصبحنا نفتقد الحاجة إلى الخير المشترك، ولكن الحياة البشرية لا يمكن أن تستمر من غير سعي مشترك إلى الخير، وحتى الفردية تحتاج إلى لغة أخرى تشاطرها الرأي وتنمو معها، وهو ما يدعو إلى الإيمان بالخير الكوني الذي يلغي الحدود والقارات، وأن نتحد أمام جميع الأخطار، طبيعية كانت أم بشرية.