تاريخ كنوز مصر القديمة وأسرارها

أيمن البيماني

لطالما عرج الناس والباحثون والمؤلفون وعلماء الآثار إلى الحديث عن كنوز مصر القديمة والمخبّأة في مدافنها ومقابرها منذ آلاف السنين. وبطبيعة الحال تختلف الروايات والقصص والكتابات حول أصل هذه الكنوز وأسرارها وخباياها، ولذلك قد تنتشر مع تلك الروايات بعض الأساطير والخرافات التي هي نتاج عوامل اجتماعية أو سياسية أو غيرها. وهكذا نحلل هنا مقالة عمرو عبد العزيز منير والمنشورة في مجلة التفاهم بعنوان: (كنوز مصر القديمة: الأسطورة والتاريخ).

لعلّ من أقدم من تحدّث عن كنوز مصر هو تقي الدين المقريزي، حيث ذكر أنّ أحد أهمّ العلوم التي نشأت بفضلها هو "علم الكنوز"، وهو عبارة عن الوثائق والأدلّة والروايات عن أسرار وأماكن تخزين الأموال والكنوز والذخائر إبّان حقب مصر الفرعونية وما بعدها في الأهرامات والمقابر والمدافن. وقد حُمِل أغلب تلك الوثائق والبرديات بواسطة الروم ومستعمري مصر إلى كنيسة القسطنطينية وبقية أديرة أوروبا وكنائسها للاحتفاظ بها.

لم يخلُ القرآن الكريم من ذكر مصر وكنوزها وخباياها، يقول تعالى: (فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ) [الشعراء: 58.57]. وتواترت الروايات والقصص والأخبار عن تلك الكنوز، فقال الرحّالة العثماني (أولياجلبي): "وتحتوي الأراضي المصرية على كنوز عظيمة ودفائن جسيمة، وخبايا كثيرة، ومطالب عزيزة".

إنّ ظهور أخبار تلك الكنوز كان دافعاً للخيال الشعبي القديم في مصر بالحديث عنها وتداول الموضوع وتأريخه؛ فمنهم من روى أنّ تلك الكنوز هي كنوز فرعون، ورأى آخرون أنها كنوز يوسف عليه السلام، وعرج آخرون إلى القول إن الأمر مرتبط بعقيدة المصريين القدماء من حيث الخلود والأبدية في حياة أخرى، وهو ما يفسّره تقديس عمليات الدفن واحترامها، والتي لم تكتشف أسرارها وخباياها إلا منذ زمن قصير، وبالتالي تفكير المصري في عالم خالد أثّر على حياته وعلى عمليات دفنه والحفاظ على كنوزه.

ولم تغفل مقدّمة ابن خلدون الشهيرة والجامعة لأخبار العرب وتفاصيل حياتهم عن هذا الأمر، فذكر أنّ أصل وجود تلك الكنوز هم المصريون القدماء (القبط) الذين حكموا مصر، وكان ملوكهم وموتاهم يدفنون كنوزهم وأموالهم معه. حتى انقضت دولة القبط وأتى الفرس والروم فعلموا عن أمر تلك الكنوز فنهبوها.

وذكر آخرون أن تلك الكنوز المدفونة هي نتائج الضرائب القديمة في مصر، حيث إنّ الضرائب كانت تقسّم لأربعة أقسام: قسم للملك، وقسم للعسكر والجيش، وقسم آخر للزراعة، والربع الأخير كان يدفن في الأرض والمدافن والمقابر، ومنه أتت الكنوز التي ضلّت مرتعاً لحديث الناس والكتابات التأريخية.

أمّا الروايات القائلة بدفن المصري لأمواله ما هي إلا حقيقة واضحة ودليلاً على تطوّر سلوك الإنسان المصري في إخفاء ما يراه ثميناً عن أعين الناس، أو الخوف والكبت من بطش الحكّام. وكان أغلب الناس يفعلون الأمر ذاته للدرجة التي قال فيها أحد المؤرخين: "لا تخلوا ذراع في أرض مصر من الكنوز القديمة". وكذلك قد يكون للظروف السياسية دور مؤثر في هذا العمل؛ فعندما أتى عمرو بن العاص أنذر الناس أنه من كتم كنزاً سيقتله، ولذلك عمد الناس إلى دفن كنوزهم عميقاً بعيداً عن أنظاره ومواراةً لثرواتهم عنه. ولذلك لا يسعنا إلا أن نشير إلى أن إحراز المصري لكنوز كثيرة وإخفائها كان نتيجة لتداخل عوامل كثيرة منها الخوف من بطش الحكام، أو الخوف من الحسد، أو تحسّباً لنوادر الدهر ونوائبه، أو حتى ربما طلباً للستر في أموال مسروقة أو مكتسبة بغير وجه حق. تعددت الروايات واختلفت الروايات حول صحّتها من عدمها، وزادت أسطرتها بين ألسن المصريين وبقيت عبارة (إخراج ما تحت البلاطة) إلى يومنا هذا كدليل واضح وصريح على إخفائهم لما يملكونه بدفنه تحت الأرض!!!

قال ابن الوردي: "إنّ من خصائص مصر كثرة الذهب والدنانير"، ونستدل على عظمة كنوز مصر من المثل القائل: "من دخل مصر ولم يستغنِ فلا أغناه الله بعد ذلك". وإن تلك الثروات العظيمة لم تكن لتسلم من محاولات التنقيب والبحث عنها. الجدير بالذكر أنّ أوّل محاولات التنقيب عن كنوز مصر حدثت في عهد أمير مصر ومؤسس الدولة الطولونية في مصر والشام أحمد بن طولون (868 - 884 م) حيث ظهرت مجموعة من الناس يسمّون (المطالبية) الذين يبحثون عن المطالب والكنوز، وكانت لهم أدواتهم وثيابهم الخاصة بهم. حتى علم الحاكم عنهم ومنعهم من ممارسة ذلك العمل دون إذن منه وبمراقبة رجاله، حتى أصبحت عمليات التنقيب تحدث تحت مراقبة الحكام، ثم استطمع الحكام في ذلك فشاركوا في عمليات البحث عن الأحجار والذهب والمعادن النفيسة لبناء القصور وتزيين المباني.

أمّا أحد الأسباب الأخرى للعبث بكنوز ومدافن مصر فهو الاعتقاد السائد بأنّ قليلا من طحين أو مسحوق مومياء مصرية كفيل بالشفاء من العديد من الأمراض، وقد دافع الطبيب العربي المسلم ابن سيناء عن أهمية المومياء العلاجية، كما شاع هذا الأمر لاحقاً في أوروبا الوسطى كأهمية علاجية دفعت الأوروبيين للتهافت إلى مصر والقاهرة خلال القرن السادس عشر وصاعداً للبحث عن القبور والمومياوات!!!

إنّ مشاركة الحكام والملوك في البحث عن كنوز مصر القديمة أضرّ كثيراً بالإنسان المصري، ودفع به إلى شرنقة الفقر المدقع وقمع الحكام، حتى انتشرت الخرافات والأوهام كما أشار البغدادي للدرجة التي أصبح فيها الناس يرون في كل شيء دليلاً على كنز مدفون أو مومياء علاجية، ولذلك هذا النهم العظيم وأحلامهم في الثراء أدت إلى أزمة أخلاقية خصمت من خانة أخلاق المجتمع المصري ولم تضف عليه! وأكّد ابن خلدون في مقدّمته أن هذا السعي ليس إلا بسبب ضعف العقول والعجز عن كسب المال بالطريقة الطبيعية، وقمع ولاة الأمر للشعب المغلوب عليه.

إنّ وقوف ابن خلدون والبغدادي على هذه الطبائع ما هو إلا دليل للكشف عن العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي دفعت بالإنسان المصري بالعبث بركام الماضي للنجاة من وحل الحاضر، وهكذا كان تاريخ الآثار المصرية والإنسان المصري العظيم اللذين يبذلان كل الجهد من أجل مقاومة الفناء في عالم طامع وراء المال والثراء!!!!

 

 

أخبار ذات صلة