أيمن البيماني
ارتبطَ مفهومُ الأمة الواحدة في عدد من الآيات القرآنية، وتتعدَّد تعريفات ومعاني الأمة الواحدة قي القرآن الكريم بحسب السياق، وهو ما يُطلق عليه بعلم "الوجوه والنظائر"، كما يذكر القرآن بعض الأمور المرتبطة بالأمة الواحدة؛ ومنها: أن الناس كانوا أمة واحدة فاختلفوا "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً" (البقرة: 213). وكذلك فإن مصير هذه الأمة مختلف عن مصائر الأمم السابقة التي سادت وبادت. وهذا ما سنناقشه في مقال رضوان السيد "المقولة القرآنيَّة في وحدة الأمّة وتجاوز الأخطار والمخاطر"، والمنشور في مجلة "التفاهم".
فعلى الرغم من تميُّز هذه الأمة بعدة خصائص؛ من ضمنها: أنها أمة خاتمة النبيين، وأنها خير الأمم وهي الأمة الوسط، وضرورة أن تبقى واحدة بعكس الأمم السابقة؛ إلا أن الرهان على هذه الأمة واجه تحديات جسيمة على مر زمان، سواء تلك التحديات العقدية أو السياسية أو الصراعات الدينية أو الإستراتيجية.
لقد اضطربت العرب والكيانات الإسلامية بعد القرن السابع الميلادي بشكل واضح، وواجه مشروع الأمة الواحدة تحديات كبرى هددت هذا المشروع بأكمله. ولذلك عدة أسباب؛ منها: انقسام العرب إلى بوادٍ وحواضر، ودويلات تابعة للروم أو الفرس، وما تبع ذلك من اشتباكات مع الدول التركية في آسيا الوسطى، والصراع مع البيزنطيين في الشام ومصر وشمال إفريقيا وصولا إلى إسبانيا لأكثر من ألف عام. وكذلك اضطراب الكيانات الإسلامية بسبب الغزوات الصليبية والمغولية والتتارية، وفي النهاية: الاستعمار الغربي، والظهور الصهيوني الجائر في المنطقة.
ورغم جميع الأخطار السابقة؛ فلا تعدو كونها مخاوف خارجية، وما يهم في وحدة الأمة هو الشأن الداخلي بشكل أكبر، والاهتمام باحتياجات الدولة الداخلية وشؤونها.
لقد أصرَّت أيديولوجيا هذه الأمة على الوحدات الثلاث: وحدة الأمة، ووحدة الدار، ووحدة السلطة. لقد تحطّمت وحدة السلطة بعد قيام الدويلات شبه المستقلة بعد القرن الثالث الهجري، وذهبت وحدة الدار عندما فرض الفقهاء والمتكلمون شروطاً لدار الإسلام، وفي ذلك اقترابٌ من مفهوم الدولة القومية اللاحق. ولأنّ وحدة الأمة غير مرتبطة بسلطة ولا بأرض؛ فكانت هي الوحيدة التي نجت من السقوط، وما تضمّنته الآيات الكريمة من شعبتيّ الدين الوسط، والأمة الوسط.
ولم تسلم الأمة الوسط صاحبة الدين الوسط من المخاطر على مر الزمان؛ وذلك كما ذكرها القرآن الكريم وفصّلها، ونذكر منها:
1- خطر الفساد:
تعدَّدت مواضع ذكر الفساد في القرآن الكريم باختلاف المعنى في كل موضع، ومنها أنه سبب للخراب والفوضى "قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ" (البقرة: 30)، وكظهور حالة الفساد الكبرى بسبب أفعال الناس "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ" (الروم: 41)، ومنها ما هو مرتبط بالطغيان "الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ" (الروم: 11-12)، وغيرها ما هو مرتبط بالمفسدين الذين هم أكابر المجرمين، الذين يمكرون لكسب أنصارهم من العامة "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا" (الأنعام: 123)، وآيات أخرى عديدة لكل منها تفسير موضع معين للفساد.
لقد بَعَث الله الأنبياء في الأمم السابقة لإصلاح ما أفسده الفساد الأخلاقي والاجتماعي والسياسي الذي يفرضه المجرمون وشعبويّاتُهم، وهو الذي يُثير سخط العامة مما يؤدي إلى حدوث التداعيات وتأثيرها على وحدة الأمة. وحيث أن النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- هو خاتم النبيين؛ فقد كان لقانون الدفع بعده "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ" (البقرة:252) الدور الكبير في مواجهة الفساد، وكذلك لدور الإصلاح بين الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فالفساد آفة عظيمة، ولكن الدور الإصلاحي للناس وأصحاب الخير والمبادرة وهم من يدفعونه ويقاومونه لإحداث التوازن في الأمة الوسط.
2- خطر الفتنة:
كحَال مُصطلح الفساد وظهوره في آياتٍ عدّة في القرآن الكريم؛ فقد ظهر مصطلح الفتنة في ستين موضعا في القرآن الكريم، والفتنة هنا تأتي من الاستهواء لجهة فقد الإيمان أو فقد الصلاح، ولكن حالما تصل إلى الجماعة فهي تمثل خطرا عظيما لأنها تفسد فئات كبيرة من المجتمع، وعظّمها الله تعالى في هذه الآيات: "وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ" (البقرة: 191)، و"وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ" (البقرة:217) ونذكر هنا بعض الأمثلة على ماهية الفتنة ومقاصدها:
أ- مسألة المحكم والمتشابه؛ حيث إن أهل الفتنة يريدون استخدام مسألة المتشابه لإحداث انشقاقٍ ديني بين الناس. وتاريخيا؛ يلعب أهل الفتنة على وتريّ التشدد أو الاعتدال، وفي كليهما محاولة لإحداث انشقاق في الدين، وحيث يتصدّى لها الراسخون في العلم "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا" (آل عمران:7).
ب- مسألة الإخراج من الديار، وهو فتنة كبرى يستحق الدفاع والقتال عنه، ومثاله محاولة قريش إخراج النبي ومن معه من مكة إلى المدينة "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ" (البقرة:217).
ت- مسألة تفرقة الكلمة، وأمر الله المسلمين بالتصدّي لهم ومنع ذلك بالقوة ليكون الدين كله لله "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ" (الأنفال:39).
وتتعدَّد الآيات الكريمة في الكتاب الحكيم وتوضيحها لأوجه الفتنة كاتهامها لصانعي الفتنة بالنفاق وأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وأن أهل الفتنة مستعدون للإنفاق في الحرب من أجل هزيمة راية الإسلام لشدة كراهيتهم للإسلام وللرسالة.
وهنا.. نذكُر بعض وسائل مكافحة الفتنة كما جاء ذكرها في بعض الآيات. فأولى تلك السُّبُل هي عدم السماح للنفس أو للآخرين بالتشكيك في قيادة النبي محمد، وأن اكتساب القائد للثقة بالمؤمنين، والثقة من المؤمنين يضعان القائد في موضع يستعصي على أصحاب الفتن والمؤامرات. وثاني تلك السُبُل هو أخذ العِبر والدروس من الماضي ومما كان عليه المؤمنون السابقون من عصمة وتماسك نحو قائدهم. وثالث تلك السُبُل المبادرة من الأقوياء الذين يستطيعون تحمّل المسؤولية ومواجهة تلك الفتن ودرؤها عن وحدة الأمة الوسط.
إنَّ هذين المرضين -الفتنة والفساد- لهما مرضان عظيمان قد يصيبان الأمة الوسط ووحدة صفها ورسالتها، ومتى ما اختلف الولاء داخل الأمة الوسط؛ أصبح المرضان تهديدا عظيما على تضامن ووحدة هذه الأمة، وهو ما يحذّرنا القرآن الكريم منه.