مدنية التعليم في الفكر الإسلامي وأثرها على المنظومة التربوية

سيف الوهيبي

أسس الفكر الإسلامي التربوي لشخصية مُسلمة قوية فاعلة منذ مُطلعة، استطاع من خلالها استيعاب حاجات ومشكلات المجتمعات التي شُملت بنور الإسلام، بالإضافة إلى استيعاب الثقافات الوافدة والتفاعل معها؛ فكان ذلك الإنتاج الفكري والتراث العلمي الهائل الذي تمخض منذ بدايات القرن الثاني الهجري بدءًا بالعالم المغاربي محمد بن سحنون التنوخي (202هــ/817م) في كتابه "آداب المعلمين"، مروراً بالماوردي والفيلسوف أبي حامد الغزالي، وغيرهم من العلماء ممن اشتغلوا بالفكر التربوي وسبروا أغواره. وقد شهد الفكر الإسلامي تطورا ملحوظا على الصعيد العالمي، غير أنَّ هذا الانتشار والتوسع انحبس إشعاعه وانتهى به الأمر إلى مفاهيم ضيقة خلاصتها ترديد معارف السلف من جهة، وتقليد الفكر الأجنبي من جهة أخرى، فأصبح التعليم يُعاني من غربة في الزمان والمكان، يعيش خلف المجتمع بعيداً عنه وعن مشكلاته ويحاصر نفسه وحركته ضمن مُعطيات عقول أنتجت لعصر آخر ولمُشكلات أخرى.

 هذا ويُعاني الفكر التربوي الإسلامي من مشاكل عدة، نناقش أبرزها ضمن مقالة الكاتب مصطفى حضران المنشور بمجلة التفاهم بعنوان "سؤال إصلاح الفكر التربوي" وفيها نبحث في مسألة ازدواجية التعليم وما لها من مخاطر عدة في بناء الإنسان العربي المسلم.

 تشكل مسألة الانقسام الحاصل في نظام التعليم الإسلامي في مسألة الفصل بين العلوم الدينية التقليدية والعلوم الحديثة، أزمة مفصلية حاسمة في التاريخ منذ القرنين السابع والثامن عشر، وهي نتيجة الاحتكاك الحضاري والاستعمار الغربي للشرق بداية بالاستعمار الفرنسي عام 1798م، وفيه بدأ الصراع يعرف طريقه ومساره بين القديم والحديث، والأصالة والمعاصرة، بين الثقافة العربية الإسلامية وبين الثقافة الغربية الحداثية، وقد تباينت حدة الصراع باختلاف المجال المعرفي، فبينما اشتد وحمي وطيس الصراع في مجال الدراسات الإسلامية، خفَّ وبهت في مجال العلوم الأساسية والتطبيقية، واستُحدث نظام تعليمي علماني ذو توجه غربي مُوازٍ للتعليم الديني التقليدي الموروث، وانقسم التعليم إلى ديني ومدني، أما الديني فيقوم على مخلفات بالية وقشور من الفكر الإسلامي واللغة العربية، ويحرم دراسة العلوم الحديثة، أو يأخذ منها أنصبة تافهة، ويكتفي بحفظ القرآن أو جزء منه، إضافة إلى العلوم الشرعية واللغوية فقط، ويوزع خريجو هذا التعليم على نواحٍ جانبية من المجتمع الإسلامي ريثما يتم الخلاص منهم ومن قصورهم الملحوظ. أما التعليم المدني فتتوافر فيه دراسة الكون والحياة، وتتسع فيه الدراسات الإنسانية المجردة، ونحسب أن الطالب العربي قد حصل على أنصبة ضخمة من المعارف العلمية المحترمة تساوي ما حصل عليه زميله في موسكو أو لندن! أما العلوم الدينية والعربية فإنَّ الطالب لا يكلف بها ولا يتناول منها إلا أنصبة محدودة هزيلة.

 لست من مؤيدي نظرية المؤامرة بل من مناصري محاربتها ومجابهتها بالتسلح والإيمان الداخلي والتمسك بالأفكار الأصيلة والتراث وتطويره بما يتماشى مع عصره، حيث لا زالت سياسة المستعمر الغربي في العصور القريبة الماضية، والتي تنتهج سياسات الحروب الباردة والمتدرجة في التغيير والتوجيه للهيمنة؛ لما لها من أمد بعيد واستمرارية طويلة، بغية فرض الأفكار ومن ضمنها سياسات التعليم. وتتجلى سياسة المستعمر بخلق جيل يفتخر بالفكر الغربي ويمجده ويناصره، ثم يأخذه، ويحمي مصالحه الفكرية والثقافية والمادية؛ وقد كان – المغرب كمثال على الدول الإسلامية المستعمرة- وفيها ظهرت ازدواجية ما بعد الاستقلال، نتج عنها ازدواجية ثقافية على مستوى المجتمع وانقسمت النخبة المثقفة إلى فئتين: فئة تلقت تكوينها بالتعليم الأصيل، وفئة تكونت وفق نظام التعليم العصري، وقد تولد عن هذا الانقسام اختلالات وصراعات كان لها صدى ملموس على تدني مستوى التعليم لما بعد الاستقلال.

أمام هذه الثنائية والازدواجية التي تعيق مسيرة التعليم والتي أدت إلى نتائج سلبية ليس فقط على محتوى التعليم، بل على مستوى فكر جيل بأكمله تربى على سلوكيات وأخلاق الفكر الغربي العلماني. في مقابل هذه الازدواجية والإحساس بخطرها؛ نبهت المؤتمرات العالمية التعليم الإسلامي بضرورة تجاوز هذه الثنائية "حيث عملت على بلورة فكرة التكامل المعرفي وخلق الوعي اللازم بأفكارها المفاهيمية والمنهجية، ووضع الخطوط العريضة لتنفيذها، فالفرضية التي أُسست عليها الفكرة هي أن النظاميين مختلفان، وأن التعارض بينهما متأصل على المستويين العلمي والنظري، ولا يمكن بحال أن ندمجهما في نظام تعليمي واحد، وهو الإِشكال الذي يمثل جوهر الأزمة الفكرية للأمة الإسلامية. يقول أبو الحسن الندوي "ليس إلا أن يصاغ هذا النظام التعليمي، صوغاً جديداً، يلائم عقائد الأمة المسلمة ومقومات حياتها، وأهدافها، وحاجاتها، ويخرج من جميع مواد روح المادية بالتجرؤ على الله سبحانه وتعالى، ويقدر الآخرة، ويعطف على الإنسانية كلها بلا استثناء".

خاتمة

 يقسَّم الفكر التعليمي الغربي حسب منظوره العلوم إلى قسمين: قسم يهتم بالدين، والقسم الآخر دنيوي، هذه النظرية قائمة على الفصل بين الدين والحياة ولكنها تتعارض والإسلام تعارضاً تًاما، ذلك أن الدين في حسب المنظور الإسلامي ليس شيئاً منفصلاً عن الحياة، وأن العالم بما حوى ملك لله سبحانه وتعالى، يحيا الناس وِفقاً لمشيئته، وسعياً لتطبيق تعاليمه، وهكذا فمثل هذا التصور للحياة البشرية يؤدي إلى تحويل جميع العلوم الدنيوية إلى علوم دينية، أما تقسيم العلوم إلى قسمين – ديني يُدرس من وجهة نظر إلهية، وآخر دنيوي يُدرس من وجهة النظر الأخرى المُقابلة – ويفضي إلى الاعتقاد بأن الدين شيء والحياة شيء آخر، وأن كلاً منهما يسير في مجرى لا صلة له بالآخر، وهكذا يصبح التوفيق – بغية إخراج الجماعة المؤمنة التي يريدها القرآن الكريم – أمراً صبعاً بالنسبة لهذه الأجيال. ومن ثم فإن الازدواجية التعليمية التي حدثت أصبحت بمثابة تأسيس لذلك الحاجز المقام بين الدين والدنيا، وهي قِسمة أفرزت ثقافتين متباينتين إحدامها تتعامل مع الدنيا بمختلف مجالاتها، والثانية تتعامل مع الآخرة بتنوع أبوابها، وهو ما عُد بحق ضربة قاصمة للثقافة الإسلامية وللدين نفسه، أبعدت الدين عن الحياة والحياة عن الدين، وهكذا بقي الازدواج الذي هو أصل البلاء، وبقي ما ينتج عنه وجود عقليتين وتكوين فئتين من المثقفين بثقافتين مختلفتين، إحدامها دينية ولكنها قديمة في تفكيرها وأسلوبها عقيمة في طريقتها، منعزلة عن الحياة، ضعيفة التأثير فيها، والأخرى مدنية أو علمانية أو لا دينية ولكنها غنية في تفكيرها، جديدة في أسلوبها، متصلة بالحياة ومشكلاتها، ممسكة بزمام التوجيه الفكري والاجتماعي والسياسي.

 

أخبار ذات صلة