الديانات الهندية بأعين عربية

سَيْف الوهيبي

 

نلخِّص في هذا المقال بحثاً لشمس الدين الكيلاني، نشره في مجلة "التفاهم" بعنوان "نظرة الثقافة العربية إلى الديانة الهندية".. تُصنِّف الديانات الهندية كمجموعة من أقدم الديانات على مر التاريخ؛ نظراً لتاريخ الهند العريق؛ حيث يُقدِّر المؤرخون عمر هذه الديانات إلى خمسمائة سنة قبل الميلاد؛ مما خلق تنوعاً فريدا نتج عنه ما يقارب تسعمائة ملة متنوعة الشعائر، متعددة الطقوس. وفيها شدَّ الكثيرُ من المؤرخون رحالهم بُغية الخوض في تاريخ هذه الديانات واختلطوا فيها وخاضوا بحارها معية الشعب الهندي الحالم ليوُجدوا تصوراً حقيقيًّا حول طبيعة الديانات الهندية. وقد كان للعرب نصيب وفير من هذه الدراسات نظراً للعلاقة الوثيقة التي تربط الثقافتيّن على امتداد التاريخ، فتنوعت الكتب والمقالات التي أوردها الرحالة والمؤرخون العرب لتعبر عن الديانات الهندية، نذكر من هؤلاء: البيروني، والمسعودي، وابن طاهر المقدسي، وابن النديم، والشهرستاني...وغيرهم الكثير ممن أثروا المكتبة العالمية بمصنفات قيمة تصف طبيعة الديانات الهندية.

 

ولم تكن الديانات الهندية يوماً قالباً سهل الفهم، واضح المعالم، فهي متعددة المظاهر تحمل الجانب التوحيدي تارةً، والجانب الشركي تارةً أخرى، فتجد انتشار قداسة الأصنام (البُد)، ومظاهر تقديس الأفعى، والبقرة، والشمس، والشجر، وتقديس نهر الكنج، وطقوس إذلال الجسد، والتقشف، وعقيدة التناسخ، هذا غير تعدُّد الديانات وتفرعها. هذه الديانات أو الطقوس تعود عادةً لمرجعية دينية أو ثقافية تندرج تحت مركزية دينية واحدة؛ حيث يرى المقدسي في بحوثه حول تاريخ الديانات الهندية أن جميع الديانات يعود أصلها إلى اسمين؛ هما: البراهمة والبوذية. أما عددها فهي تتخطى التسعمائة ملة، مختلفة الطقوس متعددة العقائد، ويصنف المسعودي المِلل في الهند إلى اثنتين وأربعين ملة. أما المسعودي، فيشير إلى أنَّ الملل في الهند بدأت بسبعة فرق، ثم تفرعت لما اختلف أهل الهند في آرائهم وانقسموا إلى سبعين فرقة، والبراهمة بلا شك هم منبع وأصل هذه الملل؛ وذلك حسب ما أشار إليه العديد من المؤرخين، ويعد براهما هو الملك والمؤسس للديانة الهندية، إلا أنَّ بعض المؤلفين أشاروا لاحتمالية كونه رسولاً، وحسب تصور الهنود يعد براهما أو برهمن الأكبر، الخالق وإله الخلق وسيد الآلهة، ويطلقون عليه باللغة السنسكريتية "سانجهيناج"، وبجانب الإله الخالق، هناك الإله وشنو أوشيفو، المخرب المدمر الموكول له قبض أرواح الناس، وتخليصها من أبدانها، والإله وشنو، وهو الحافظ، آلة الحب والرحمة والهادي للحق، وبجانب هذه الآلهة الثلاث الكبرى، هناك ملايين الآلهة وآلاف الطقوس والمعتقدات والمفاهيم الغريبة والمحيرة في تاريخ الديانة الهندية.

 

ورغم كثرة الطرق التعبدية، إلا أنَّ البراهمة تضمَّنت جميع هذه المعتقدات، واستوعبتها داخلها، لكن لكلٍّ طريقته ومنهاجه؛ فالهندوس يقولون بوحدانية الله، مثلما أشار الشهرستاني في قوله عن بعض فرقهم: "قد دل العقل على أن الله تعالى حكيم، والحكيم لا يتعبد الخلق إلا بما دل عليه عقله، وقد دلت الدلائل على أن للعالم صانعاً عالماً قادراً حكيماً، فننظر في آيات خلقه بعقولنا ونشكر". وأكد كلٌّ من المروزي وابن طاهر المقدسي ذلك، عبر الإشارة إلى بعض فرقهم، أنهم جمعوا بين القول بالخالق الواحد والنبوة والرسالة، ويشير المقدسي بذلك في كتابه "البدء والتاريخ" بقوله: "فممن أثبت الخالق البراهمة، زعموا أن رسول الله إليهم ملك من الملائكة، يقال له سديو، أتاهم في صورة البشر برسالة من غير كتاب، له أربعة أيد، واثنا عشر رأس، أمرهم أن يتخذوا صنماً يعبدونه ويطوفون حوله في اليوم ثلاث مرات، وأن يعبدوا البقر، وألا يجتازوا نهر الكنج"، وقد تدرج البراهمة شيئاً فشيئاً نحو الانحلال من التوحيد والإيمان بالخالق إلى التعدد والتجسيد؛ وذلك عن طريق تعظيمهم للنار، والأبقار، والأصنام...وغيرها؛ وأدى ذلك إلى نشأة طقوس ومعتقدات متنوعة ومختلفة على مر العصور.

 

وهكذا، فقد شكَّلتْ الديانة الهندوسية تيارات عدة؛ فبعد أن أصبحت عبادة الصنم وسيلة للوصول إلى الله وتقرباً منه، ظهر أصحاب الروحانيات والماديات، وأصحاب الدهر وأصحاب التوحيد، وفيهم المنكرون للنبوات، وقد وصف المؤرخون أقساما كثيرة، نذكر منها: أصحاب الروحانيات القائلين بالتوحيد، وأصحاب الهياكل (المجسدة)، والحكماء الموحدة اعتمادا على العقل، وعبدة الأصنام وهم كثر، وفيهم أصحاب الفكر، المعطلون لحواسهم، وهم لا يأكلون الألبان واللحوم، وما مسته النار، ومنهم المُصفِّدة، الذين يُصفِّدون أجسادهم بالحديد، ومنهم الجهكلية، يعبدون الماء ويزعمون أن معه ملكاً، ومنهم من يعبد النار، وهي أعظم العناصر، وهؤلاء لا يحرقون موتاهم، ومنهم المهاكلية، لهم صنم يقال له "مها كال"، يحجون إليه، ومنهم من يعبد الشمس، ومنهم من يميل إلى الثنوية، ويقول بملة إبراهيم -عليه السلام- ويقال لهم الصابئة، وأكثر من لاحظه المؤرخون عبدة الأصنام، ويصف ابن سعيد المغربي قلاع البراهمة على ضفاف نهر الكنج، وهم يحجون حولها وبها عديد الأصنام، ويذكر المروزي أنه مر على إحدى مدن الهند، بها سبعمائة بيت للأصنام، وهو ما يدل على عددها الهائل متفرقة في أرجاء الهند.

ولم يكتفِ الهندوس كون عبادتهم موجَّهة للأصنام، بل شملت ظواهر الطبيعة من الحيوان والنبات، وأبرز تلك الظواهر تقديسهم لنهر الكنج، الذي ارتبطت به الكثير من الطقوس، فهم يعظمونه، ويغرقون فيه، ويزعمون أنه نهر من الجنة، وإن شُوِّهَ بالقاذورات، أظلم جوُّه وامتلات ارجاؤه من الرياح والأمطار والصواعق. ويذكر ابن بطوطة أن الهنود يحجون إلى النهر ويغرق بعضهم نفسه فيه، فإذا أتى النهر يقول: "لا تظنوا أني أغرق نفسي لأجل شيء من أمور الدنيا، إنما قصدي التقرب من كساي، وكساي اسم الله -عز وجل- بلسانهم"، ثم يغرق نفسه، فإذا مات أخرجوه وأحرقوه ورموا برماده في النهر، ويزعمون أنهم بذلك أصحاب الفوز، الذين يفكون أسوار الروح من قيود الجسد، ومنهم من يذهب ويستأذن الملك في إحراق نفسه، وقد أُجِّجت له النار العظيمة، ثم يسير بالأسواق، وقد قُرِعت له الطبول، وعلى بدنه أنواع من خرق الحرير، وعلى رأسه إكليل من الريحان، وقد قشر جلده عن رأسه ووضع عليها الجمر، فيسير وهامته تحترق، وهو يمضغ ورق التبول وحب الفوفل. ويذكر المقدسي طرقا أخرى لإذلال وتعذيب النفس لدى الهندوس بقوله: "منهم من يحفر أخدوداً، ويجمع فيه الألوان والأدهان والطيب، ويوقد عليه، ثم يجيء وحوله المعازف والطبول، ويقولون له: طوبى لهذه النفس ليكن هذا القربان مقبولاً، ثم يسجد، ويرمي نفسه في النار فيحترق"، وفيهم من يجمع له أخثاء البقر، فيقف في وسطه، وتشعل فيه النار، ومنهم من يحفر له حفرة بجانب النهر، ويوقد فيها، ولا يزال يثب في النار من الماء، ومن النار إلى الماء، حتى تزهق روحه. وعديدة هي الطرق التعبدية والطقوس الغريبة مما ذكره الرحالة والمؤرخون العرب. والهندوس يزعمون أنها طريقهم للنجاة والخلاص إلى حياة الأبد في الجنة، ولو علموا مزاعمها وفحواها، لأخرج المؤمنون منهم عقولهم وأحرقوها ومضغوها، وأوصوا بأن تنثر للكلاب تقتات بها من بعدهم.

أخبار ذات صلة