سيف الوهيبي
أحد أكبر نماذج الأدب العربي، وأشهر الكُتب في الآداب العالمية، كتاب "ألف ليلة وليلة"، فارسي النشأة، وكان يحمل عنوان "هزار أفسانه" ومعناه "ألف خرافة"، ترجم للعربية في القرن الرابع الهجري، العاشر ميلادي. وقد أولى علماء الأدب المُقارن هذا العمل الأدبي الكبير اهتماما بالغاً، وكتبوا حوله مئات الدراسات والمُؤلفات، وعُقدت حوله الكثير من الندوات وحلقات البحث في كبرى الجامعات العالمية. نناقش هنا مقالة لأستاذ النقد الأدبي والأدب المُقارن بجامعة القاهرة، الدكتور أحمد درويش، بعنوان "حول الأدب المُقارن" وهي منشورة بمجلة التفاهم.
قصة ألف ليلة وليلة
أولى علماء الأدب المقارن اهتماماً بالغاً بكتاب "ألف ليلة وليلة" بوصفه مُمثلاً بارزاً لتفاعل الأدب العربي مع الآداب السابقة عليه والموازية له؛ إذ يُعد واحداً من أشهر الكتب في الآداب العربية والعالمية، كان يُعرف الكتاب باسم "الليالي العربية" عندما تُرجم للغة الإنجليزية سنة 1706م.
توصل علماء الأدب إلى أن ألف ليلة وليلة عملٌ جماعي وضعته أجيال مُتعاقبة، وشعوب مختلفة، ويذكر أنَّ مادته الأولى تحكي قصة الملك شهريار واكتشافه لخيانة زوجته مع أحد عبيده، فقرر قتلهما معاً، وفقده الثقة في جنس النساء مع عدم الاستغناء عنهن، وقراره بأن يتزوج كل ليلة من امرأة ثم يأمر بقتلها مع طلوع الفجر حتى لا تتمكن من خيانته، ويستمر الحال فترة من الزمن حتى يجيئ الدور على "شهرزاد"، فتحكي له في ليلتها الأولى قصة مُشوقة وتتوقف مع طلوع الفجر، فيتلهف الملك لاستكمال القصة فيُبقيها إلى الليلة التالية، ثم تتفرع القصص وتتشابك ليلة بعد ليلة، حتى تصل شهرزاد إلى الليلة الأولى بعد الألف، فتنتهي الحكايات وتكون شهرزاد قد أنجبت طفلاً يمشي، وطفلاً يحبو، وطفلاً يرضع وتصطحبهم معها، وتطلب من الملك أن يأمر بقتلها كالأخريات، فيجيبها بأنَّه أحبها وعفا عنها وعن جنس النساء.
وتحمل القصة مغزىً عالمياً حول قدرة الكلمة على الإقناع أكثر من السيف، وقوة المرأة الناعمة التي لا تقل عن قوة الرجل الخشنة، وبين الليلة الأولى والأخيرة تتوالى على لسان شهرزاد مئات القصص والحكايات الشعبية التي تنطلق في الخيال الحُر، وتدور في ممالك الأنس والجان، وعوالم الحقيقة والسحر، وطبائع النفوس الإنسانية خيراً وشراً، سلماً وحرباً، مُغامرة واستسلاماً، وتلمَّ بعادات العديد من الطوائف والطبقات التي نسي التاريخ بعضاً منها ولم يدونها.
شعبية ألف ليلة وليلة والسلطان قابوس (رحِمه الله)
انتهت دراسات الأدب المُقارن إلى أنَّ "ألف ليلة وليلة" ظلت كتاباً مفتوحاً، تضيف إليه الأجيال المُتعاقبة حكاياتها، منذ أن تمَّت ترجمته إلى العربية في القرن العاشر حتى تمَّ تدوينه في مصر في القرن السادس عشر على يد رواة ومدونين مجهولين، وأنه خلال هذه الفترة المفتوحة، تعاقبت عليه أطياف من الحكايات والليالي، يُمكن أن تقسم على النحو التالي:
- الليالي الهندية والفارسية، وهي تمثل القسم الأول، حيث قصة الملك شهريار وزواجه بشهرزاد.
- الليالي العراقية، وهي تمثل إضافات الحياة الاجتماعية والتجارية والفنية في عصر الخلافة العباسية في بغداد والبصرة، وامتداداتها في الخليج العربي وخليج عُمان وبحر العرب، والمُحيط الهندي وما وراءه.
- الليالي المصرية، وهي تضيف الحياة المهنية والتجارية والصناعية، وعلاقات الشرق بالغرب في عصر الحملات الصليبية، وتُبيَّن صورة الفرنجة في مُخيلة شعوب الشرق.
وقد لاحظ علماء الأدب المُقارن أن الحكايات ظلت تسمى "ألف ليلة" حتى ترجمت إلى اللغة التركية، فأصبحت تسمى "ألف ليلة وليلة" انطلاقاً من أنَّ المبالغة في العدد في اللغة التركية يتم التعبير عنها بكلمة "بنْ بر" وهي تُترجم بألف وواحد "بن بر ليلة" يعادله " ألف ليلة وليلة".
وقد أخذت ألف ليلة وليلة أبعادها العالمية في الشهرة الواسعة امتداداً من العصر السالف حتى عصرنا الحديث، ومن أبرز هذه الدراسات الحديثة التي تنطلق من حكايات "ألف ليلة وليلة"، الدراسات العلمية التي ساندتها سلطنة عُمان بأوامر مُباشرة من السُّلطان قابوس (رحِمه الله)، وبمشاركة نُخبة من الخبراء العمانيين، والتي كانت تدور حول "رحلات السندباد" التي وردت في كتاب ألف ليلة وليلة، حيث انطلق فيها البحارة العربي المغامر "سندباد" في سبع رحلات متتالية ليكتشف فيها آفاق خليج عُمان وبحر العرب والمُحيط الهندي وبحر الصين، وما يحيط بها من جزر وبلدان، وما يجري فيها من عجائب وغرائب، ومع أن كل رحلة كانت تنتهي بتحطمّ سفينته وتعرضها للغرق، فإنِّه لم يستسلم لليأس وواصل الإبحار والاستكشاف والتدوين.
وقد اهتم المستشرق الإيرلندي "تيم سيفرن" بهذه الرحلات، وطرح من خلالها سؤالاً مهماً حول مدى تعبير هذه الرحلات من طموح البحارة العرب القدماء في استكشاف آفاق الشرق الأقصى؛ تحقيقاً لطموح الإمبراطورية العربية المُسيطرة آنذاك؟
وكانت إجابة السؤال العلمية تتطلب إعادة القيام برحلات السندباد بالوسائل الفنية والتقنية نفسها التي كانت مُتاحة لها، ووفقاً لخريطة السندباد، وتسجيل النتائج المُعاصرة ومعرفة مدى مطابقتها للنتائج القديمة في "ألف ليلة وليلة".
وقد وافقت السلطنة على تبني الفكرة العلمية، وتمّ اختيار مدينة صحار لبناء سفينة مُماثلة تماماً كالتي استخدمها السندباد في رحلته، وانطلقت السفينة في رحلتها متتبعة خريطة السندباد، ومسجلةً ملاحظاتها، والصعوبات الملاحية التي واجهتها، والكائنات البحرية والبشرية في الجزر التي عبرتها حتى وصلت إلى مدينة "كانتون " في الصين، بعد 165 يوماً من البناء، وتسعة أشهر من الإبحار، وسط انبهار العالم بالتجربة العالمية التي اقترحها "سيفرن" وساندتها السلطنة.
ولا تزال السفينة تقف شامخة في مسقط وسط أحد الميادين الهامة التي تتحكم في مفترق الطرق المؤدية إلى مدينة مسقط، مُجددة الأمجاد التليدة، والآمال في مستقبل أكثر إشراقاً، وما زال الكتاب الذي طُبع بالعربية عن تفاصيل هذه الرحلة، وترجم بعدها إللى اللغة الإنجليزية والفرنسية يملأ مكتبات العالم، مُؤكداً الأهمية البالغة لهذا العمل الكبير.
