الآخر والمشروع النهضوي العربي

سَيْف الوهيبي

يتآلف على هذا الكوكب ملايين البشر من مُختلف الأطياف والحضارات، وقد ظلَّت علاقاتهم مُتفاوتة؛ فهم أحياناً مُتخاصمون وقليلاً مُتصالحون، كلٌّ يَجْري خلف مصالحه ونزواته. تعدَّدت الحضارات وتقلبت الأزمنة، والعلاقات في هذا العالم لا تزال شيفرة صعبة المنال ممكنة الحل، دأب عليها مفكرو العالم، ليتبينوا طبيعة الصراع بين الشعوب والأمم. ومن عالمنا المعاصر، كتبتْ د. مريم آيت أحمد أستاذة العقائد والأديان بجامعة ابن طفيل بالمملكة المغربية، مقالا عنونته بـ"سؤال الآخر النهضوي"، المنشور بـ"مجلة التسامح"، والذي ترتكز أهدافه حول سُبل تأصيل وتأسيس العلاقة مع الآخر من منظور المشروع الحضاري الإسلامي.

 

من ذواتنا ومن خَلَجاتِ أنفسنا يجب أن ننطلق، إن عزمنا الوصول للآخر، ماذا نريد؟ وماذا نحب؟ وماذا لا نحب؟ تساؤلات كثيرة يجب أن ننطلق منها كي نصل للآخر، وهي كلها محصورة في ثقافتنا عبر ما مَضَى وما هو آتٍ في حضارتنا الإسلامية؛ لرفع شأنها واستعادة مجدها وهيبتها، ومن أهم مداخل الذات لمعرفة الآخر خمسة قوالب للوعي يجب أن نفهمها جيداً؛ منها:

 

* الوعي بخطورة الشعور الانهزامي:

المُنادون بنقد الذات اليوم في العالم الإسلامي، تحوَّلوا من الدواء ليصبحوا داء؛ فالمتابع القريب من المجتمعات الإسلامية، يُلَاحظ أنَّ إحساسَ الدونية والتخلُّف هو السائد بين أبناء المجتمع الإسلامي اليوم؛ فالشعور السلبي أوقات الهزائم والإحباطات يُولِّد التخاذُل والكسل، وقد ساعدتْ الحملات الإعلامية على الترويج لخلقه اليوم؛ بأنَّ النقصَ والشرَّ سببُه المسلمون دائماً، وهي نظرة نشأت وتطوَّرت عبر وسائل إعلامية مُتعددة تدار باحترافية عالية، وهي أحد أهم أنواع الحروب الباردة التي تستخدم اليوم، وتمهِّد الطريق لأهداف سياسية بحتة لاحقاً. أما سبيلنا الوحيد للخروج مما نحن فيه، فهو إيماننا العميق بذاتنا واعتزازنا بأمتنا والشعور بالعزة والكرامة دائماً، فمهما عصفت بك رياح التغيير؛ فالتنازل عن تاريخك ومجدك يجعلك بلا معنى، مهما بدت لك الوجوه الأخرى فاتنة وأنيقة.

* الوعي السياسي:

تكمُن أهميَّة الوحدة والمواطنة في تأصيل العلاقة بين الحقوق والواجبات؛ فالعلاقات تُصبح مُختلةً، في أجواء التمييز والعنصرية بين الأفراد؛ مما يُخلف انشقاقاً سياسيًّا داخل أبناء الأمة الواحدة، وهو ما يُعطِّل سير التواصل الخارجي مع الآخر، الذي يبدأ في حفر وإعادة صياغة الأمة الممزقة بالطريقة التي تناسبه هو لا أنت.

* الوعي الثقافي:

عِندما نتعلَّم فَن الاختلاف، وكيف يُمكننا تقبُّل الآخر باختلافاته وآرائه، فإننا بذلك نكون قد وصلنا إلى قمة الوعي الثقافي اللازم لتكوين العلاقة مع الآخر؛ فالتنازل عن بعض الآراء، وعدم التعصُّب المقيت لها، هما أولى الخطوات لإصلاح الخلل الثقافي الذي يُمهِّد الطريقَ للتواصل مع الآخر في الخارج، وفق مفهوم الوعي الثقافي المعاصر الذي يجب أن نتقبله بشكل واع وفعَّال، ونرسم مسيرنا النهضوي في طريقه، وليس الحل في تهميشه وإقصائه.

* الوعي الحضاري:

مَنْ ليس له ماضٍ فلا حاضر له ولا مُستقبل؛ فليس الخلاص مما نحن فيه باستنكار ماضينا ومحاولة طمس هويته ومعتقداته مثلما يرى بعض مثقفينا اليوم، فالقارئ المتمعن الفطن يدرك تماما القيمة الحضارية والعلمية التي أضافتها هذه الأمة للإنسانية، مما يدعو للفخر والاعتزاز بالأمة التي ينتمي لها، وإن تراجعت وانحسر عطاؤها، فإنها لا تنضب؛ فأبناؤها قادرون على رفعتها من جديد.

* الوعي الخلافي:

عَلَى الفرد المسلِم أنْ يَعِي مَعْنَى استعمار الله الأرض للإنسان، الذي حُمِّل الأمانة عندما استخلَفَه الله سبحانه وتعالى في الأرض كي يعمرها، ويستخرج ما فيها بجهده وعمله، لتنعم الأجيال اللاحقة، إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. يقول الله في كتابه العزيز: "هُوَ الذي أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا"؛ فغيابُ هذا الوعي يعيث الفساد في الأرض ويدمِّرها شر تدمير، وقصور الفرد عن العمل التعميري يُفسد الداخل ليلحق الخارج.

ويُمَهَّد استيعابُ وفهم مراحل الوعي بشق الطريق الذي ابتدأه الإسلام منذ ظهوره في القرن السابع الميلادي، كدين عالمي يتجه برسالته للبشرية كلها، تلك الرسالة التي تأمر بالعدل وَتَنْهَى عن الظلم، وتدعو للتعايش الإيجابي بين كل البشر، بالدعوة الصريحة للحوار بين الذات والآخر وفق مبادئ العدل والمساواة، بما يحفظ حقوقك وحقوق الآخرين. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ"، وينطلق الإسلام من مبدأ الحوار على أساس تقريب وتحديد العلاقة مع الآخر، ودعوته لمائدة الحوار، والبحث عن القواسم المشتركة بين التوجُّهات العقدية والدينية المختلفة؛ مما يَهيئ لبناء السلام العالمي الحقيقي بين مختلف الشعوب.

* الآخر خارج دائرة العالم الإسلامي:

تحتاج علاقاتنا مع الآخر خارج العالم الإسلامي إلى الكثير من الجهد والصبر؛ فقبوله يعني رعاية حقوقه. وعلى رأسها: حريته وكرامته وحقه في الاختلاف بحكم كونه بشراً؛ نظراً لوتيرة العالم المتغيِّر اليوم، وما يُصاحبها من تشعُّب لتصنيفاتها واختلافها، بين الذات (العالم الإسلامي)، ومن ضمنه الشرق والآخر الغرب بحسب التصنيف العام.

وقد مرَّت هذه العلاقات التاريخية بحواجز نفسية ومشكلات، كان ولا يزال يعاني منها واقع العالم الإسلامي، وعبر مراحل تاريخية امتدَّت لعقود من الزمن نشأت الكثير من الحواجز النفسية والعوائق الذاتية؛ مما أفرز الكثير من التعقيد والتوتر في علاقة المسلم بالآخر، يستند لمحركات دينية ونفسية وثقافية بين قطبي حضارتين؛ بحيث يسعى الطرف الأقوى لتغيير منظومة الطرف الأضعف. وليس سبيل الخلاص ببعيد عنا إذا ما تخلَّينا عن منطق الصراع والصدام، واتجهنا لأسلوب المواجهة الهادئة العاقلة البعيدة عن الردود والمواقف الانفعالية، بقصد تقدير مصلحة جميع الأطراف.

ومن هنا، لا بُد أنْ نُدرك أنَّ العلاقة مع الآخر لا يتأتَّى الوصول إليها إلا عن طريق فهم الذات وحُسن إدارتها، ولا يُمكن أن نبني علاقتنا مع الآخر بالانحلال عن هويتنا والتنازل عن قيمنا، بل بالمحافظة على خصوصيتنا وهُويتنا الثقافية، وإعداد أجيال عربية تتميز بالجرأة والقدرة على الحوار والنقد والإبداع الفكري والاكتشاف العلمي، وتكوينها تكويناً علميًّا عقلانيًّا واقعيًّا يُؤمن بنسبية الأفكار والنظريات وتاريخيتها؛ فليس صواباً أنْ يُحدِّد الآخرون طريقنا وفق ما يُرِيْدون؛ فالشعوب الواعية هي التي تقرِّر مصيرَها، وتحدِّد أهدافها.

أخبار ذات صلة