الظاهرة الإسلامية.. الجذور والمآلات

مُحمَّد السيفي

استعرض د. رضوان السيد في مقاله المنشور في مجلة "التفاهم" تحت عنوان "الظاهرة الإسلامية المتحولة إلى حزبيات.. دولة الدين وإغواء السلطة"، حجمَ انشغال المثقفين العرب خلال العقدين الأخيرين بأزمة المجتمع والدولة في الوطن العربي، وكان يرى -كما غيره من المثقفين- أنَّ أنظمة الحكم السائدة هي العلة فيما كان ويكون من مظاهر وظواهر ذلك وهذا التأزم، وما الظاهرة الإسلامية إلا نتاج لذلك التأزم الواقع على المجتمعات العربية، كما يرى أن المشاريع النهضوية التي قام بها بعض المثقفين العرب منذ الستينيات اعتبرتْ أنَّ الصعود الإسلامي في المزاج الشعبي، وفي الأطروحات الثقافية، والدينية، والسياسية شأن مُستقل عن نوعية نظام الحكم أو أنظمة الحكم السائدة؛ فقد اتجهوا إلى صناعة رؤى ونظريات في فهم التراث، وفي الموقف منه، وكانت مستندة في ذلك إلى فكرة القطيعة التاريخية، والمعرفية الفوكوية، أو فكرة الفوات الهيجلية، وكان هدف هذه القراءات هو الخروج من "مشكلة الإسلام" بإحدى طريقتين: التحرر، أو التحرير، أو بهما معا.

ويرى د. رضوان أنَّ الحضور الإسلامي الكبير يتنافى مع القطيعة، بل ومع مسألة الفوات التاريخي بالتبسيطية الشديدة في الحالتين معا؛ فمنذ كتابه الأول "الإسلام المعاصر" عام 1987م، ودراساته اللاحقة قبل وبعد حركات التغيير العربية، يرى أنه يمكن إرجاع الظاهرة الإحيائية الإسلامية أو الصحوة إلى ثلاثة أسباب رئيسية؛ هي:

السبب الأول: الحقبة الاستعمارية، والتي كان لها تأثير بالغ في الوعي العام والذهنية العربية المسلمة؛ فمنذ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي بدأت تصدر في الهند الفتاوى التي تقول: إن الهند ما عادت دار إسلام؛ بسبب غلبة البريطانيين عليها؛ فكان الناس من ذلك أمام خيارين؛ إما الجهاد، أو الهجرة، فغص ذلك القرن والذي يليه بأحداث التمرد على البريطانيين أحيانا، وعلى السلاطين المغول الذين بدأوا يخضعون لهم في تلك الفترة، وأما المستضعفون من المسلمين فما كان أمامهم إلا الهجرة، والذي تبعه انكفاء هائل في ديوبند، ومن ثم تحريم الجهاد والهجرة معا في أقوال وأفعال السيد أحمد خان، وأما من بقي منه فيعون أن بقاءهم أمر إخضاع، وعجز، واستضعاف، وذل، وهوان. وكذلك الملحمة الجزائرية التي نشبت في جزئها الأول -والتي لا يسلط عليها الضوء كثيراـ حرب فتاوى، قادها الأمير عبدالقادر الجزائري، والذي كان يدعو إلى الهجرة لأن الدار لم تعد دار إسلام، وأيده في ذلك فقهاء المغرب العربي، ومصر، واعترض فقيهان حنفيان على اعتبار أن الناس مستضعفون، وأنه يحق لهم البقاء ما دام الفرنسيون لا يعترضون لعقائدهم، وعباداتهم، وأوقافهم، وأحكامهم القضائية، وكان تكتيك الأمير عبدالقاهر الجزائري هو حشد الناس في تلمسان للعودة والجهاد، لكن انهزم الأمير عام 1847م، واعتقل ونفي. ولنا تجارب مماثلة في البوسنة والهرسك، وكذلك إشكالية النمساويين، وإشكالات ومشكلات المسلمين بآسيا الوسطى، والقوقاز، وتدفق موجات الهجرة إلى أقطار السلطنة العثمانية، ولدينا الثورة المهدية في السودان، والتي نجحت بسبب أن الفتوى لم تكن إلا بالجهاد؛ إذ مصر هي الأخرى محتلة من قبل البريطانيين، وتجارب مماثلة حصلت في غيرها من البلدان الإسلامية في هذه الحقبة الاستعمارية. ومن يقرأ أشعار، ومجادلات، وفتاوى العلماء في كثير من دور العالم الإسلامي عندما ألغيت الخلافة العثمانية عام 1924م، يحس كأن شرعية الفقيه المسلم انتهت؛ فأين يتلمس المسلم لكرامته، وشرعيته؟ وهكذا بدأ الانكفاء على الذات عند المتدينين؛ فظهرت الجمعيات والإخوانيات، واتخذ هذا الإحياء ظواهر مختلفة، وظل شعور خفي باستعادة الخلافة والشرعية، وهذا هو السبب الثاني في بروز الظاهرة الإحيائية الإسلامية وقبولها لدى جمهور واسع من المسلمين، أما العامل الثالث الذي أنتج الإسلام السياسي فهو تجربة الدولة الوطنية؛ ففي فشلها في تحقيق مطالب وأمنيات الشعوب العربية، كان الإسلاميون يعرضون في المقابل بديلا يسلب ويؤمل الجماهير.

يخلص د. رضوان إلى أن الظاهرة الإسلامية المتصاعدة على مدى أكثر من ستين عاما، استندت إلى خوف هائل على الدين، والأمة، أو دار الإسلام، والسعي إلى تجاوزها من خلال سمتية اعتقادية، وشعائرية، وقد تصدر لتحقيق هذه السمتية حِرَاكَان ثوريان في المجتمعات السنية: الجماعة الإسلامية بشبه القارة الهندية، والإخوان في مصر، وأقطار إسلامية أخرى، والسلفيون في كل مكان من جهة ثانية، وقد هدأت السلفية الجديدة بظهور الدولة السعودية، بينما استمرت مساعي الجماعة الإسلامية، والإخوان، وتفاوتت نجاحاتها وعثراتها، وأخيرا وصلت إلى سقوط الدولة الوطنية العربية والإسلامية، وفي المساعي لاستعادة الشرعية حل التنظيم لدى إسلاميي التيار الرئيسي محل الأمة، وحلت الحاكمية، وتطبيق الشريعة محل الخلافة، أو نظامها التقليدي.

ما كانت الثورات العربية عندما انطلقت قبل عامين ونصف من نتاجات تنظيم الإخوان، ولا انفجارات السلفيين، لكن كانت لدى الإخوان تنظيماتهم ونظامهم الملائم لهذا القدر أو ذاك، وكانت لدى السلفيين القدرة على إطلاق الطاقات الثورية التي اعتادوا عليها في القرون الأخيرة، ولدينا اليوم أربعة تأثيرات أو آثار لهذا المخاض الكبير والمستمر في موجات منذ عدة عقود:

* الأثر الأول: تغيُّر العلائق بين الدين والدولة؛ فتحولت الشريعة إلى ما يشبه القانون، وهذا القانون تحت عنوان الشريعة والنظام الكامل أمسكه الإسلاميون الحركيون، وسعوا لسلم السلطة من أجل تطبيقه بواسطتها باعتبار ذلك مبررا رئيسا لاستعادتها للشرعية.

* الأثر الثاني: وضعت الظاهرة الإسلامية -المتطورة إلى حزبيات وإسلام سياسي- الدينَ في مركز الصراع رمزيا أو فعليا؛ لذلك فقد كانت وستكون لذلك آثار كبرى على طبيعة الدولة، وطبيعة الدين.

* الأثر الثالث: محاولة استيلاء المؤسسة الدينية السنية على الدولة والنظام، كما هو حاصل في إيران.

* الأثر الرابع والأخير: الأدلجة الهائلة للمجتمع السياسي وأطروحاته، وأفكاره، وتوقعاته.

ويخلص د. رضوان إلى أن الظاهرة الإسلامية، وبوجهيها الشعائري والرمزي من جهة، والسياسي من جهة ثانية، طاغية في الأعوام الأخيرة، وقد أدخل وصولها للسلطة في العامين الأخيرين بلداننا في مخاض عنيف.

أخبار ذات صلة