محمد السيفي
إنَّ البحث في مسألة الأخلاق ومتقابلة الخير والشر في الفعل الإنساني من حيث مصدرها، ومعيارها وتجلياتها السلوكية؛ أثار جدليات عديدة؛ ومنها علاقة الأخلاق بالدين؛ فبينما يرى بعض المفكرين أن الأخلاق ليس مصدرها الدين، وإنما هي عقلية، أو طبيعية، يذهب آخرون إلى أنَّ الأديان هي مصدر الأخلاق وسياجه، وفي هذا تحاول مقالة الباحث محمد الطيب المنشورة في مجلة التفاهم بعنوان "الخير والشر والنظام الأخلاقي في القرآن" دراستها بوصفها نظاما أخلاقيا إسلاميا، مركزة على بعدها العملي. والدافع إلى ذلك بحسب الباحث هو كثرة الشرور التي نراها في عالمنا اليوم في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وفي العلاقات بين الدول والأمم، والشعوب والقبائل والأعراق، من مظالم واستغلال الشعوب المستضعفة المغلوب على أمرها، ومن إبادة للبشر على الهوية، وحروب أهلية. ويركز الباحث على أن هذه ضرورة ملحة في سياق غربي يعمد إلى تشويه الإسلام برميه بالعنف والإرهاب، ويتهم المسلمين بأنهم معسكر الشر؛ بسبب ما يرتكبه الإرهاب المعولم من شر.
إنَّ وضع الكاتب لتصور مُحدد لماهية الخير والشر من خلال النظام الأخلاقي الإسلامي يستدعي بالضرورة منهجاً ومنطلقاً قبلياً لدى الكاتب يحدد آلية تعامله مع التراث الإسلامي المتشعب والمتنوع، لكن الكاتب لم يشر إلى ذلك صراحة، ويمكن استخلاص ذلك من خلال آلية عمله في المقالة، وسنحاول مقاربة منهجيته وقبلياته في نهاية الملخص.
بما أن مدلول الخير في الاستعمال العربي هو ما أدى إلى جلب منفعة أو تحقيق مصلحة، والشر هو كل ما أدى إلى مضرة أو أذى؛ فمقياس الخير ذاتي ضيق، وبالتالي فإنَّ الباحث يستخلص من الاستعمال القرآني ما هو مخالف لذلك؛ فهو أوسع من هذا الاستعمال الضيق؛ حيث جاء في القرآن: "كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون" وجاء أيضًا في من كرهوا زوجاتهم: "وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا"، ومن ذلك يستنج الباحث أنَّ النفع والضر في الإسلام لا يصلح معيارا للخير والشر في الإسلام؛ فالخير والشر في التصور الإسلامي غير مرتبطين بالنفع الشخصي أو الضرر الشخصي المقتصر على الفرد الذي تدفع به رغباته وظروفه، كما ذكر الباحث أنّ الخير قد يعني في الاستعمال القرآني الإسلام؛ كما في الآية "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون"، وقد يعني الفعل الذي يرضي الله ـ تعالى ـ كما في الآية"وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم".
ويرى الباحث أنَّ ما يميز الخطاب القرآني في عرض ثنائية الخير والشر أنه يقدم الخير على الشر، والحسنات على السيئات، والثواب على العقاب، والجنة على النار، كمثل قوله تعالى "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره".
كما أن الإنسان في الوصف القرآني هو ظلوم جهول هلوع، وفعل الشر جزء من نفسه السيئة هذه؛ فعليه أن يسعى دائماً إلى تزكية نفسه وتطهيرها؛ "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها". ولكن رغم إقرار القرآن الكريم بما في طبيعة الإنسان من ميول إلى الشر، فإنّه يبشر بانتصار الخير على الشر "فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"، وهذا الانتصار مرده إلى خيرية الله ورحمته الشاملة: "ورحمتي وسعت كل شيء". ووفق التصور القرآني للخير والشر فإن كل ما يقرب الإنسان من مرضاة الله، ومن الجنة فهو خير، وكل ما يدفع بالإنسان إلى سخط الله، وإلى النار فهو شر.
خلق الله الإنسان ـ وفق التصور الإسلامي ـ في أحسن تقويم: "ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"، كما جعله حرا مريدا مختارا لنفسه الخير المرشد إليه بالوحي، ومتجنبًا الشر المرشد إليه بالوحي "فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى"، "إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا"، ثم يرد الباحث في رد كل المشكلات العالمية؛ الصغيرة منها والكبيرة إلى الخروج عن منهج الله. كما يرى الباحث أنَّ الشر ليس مطلقاً، وليس جوهريا لا من طبيعة الكون، ولا من طبيعة الإنسان، ويرى بناءً على ذلك أن النظر إلى مطلقية الخير تجعل الإنسان ينظر إلى الشر نظرة أقل انفعالا مما جرت عليه العادة، كما تخفف على أنفسنا غلواء الانفعال العاطفي الذي يحرضنا أحياناً على الانتقام العنيف مما نعتقده شرا.
ثم يؤكد الباحث على محورية الأخلاق الخيرة في التصور الإسلامي؛ فهي جوهر الرسالات السماوية عمومًا، والقرآن والسنة. كما يرى الباحث، عرضت نظرية الخيرية متكاملة في التنظير والتطبيق، في الأبعاد النفسية، والاجتماعية، ثم يدلل على أن الخيرية الأخلاقية من مقاصد الإنسان بتعداد ما جاء في القرآن من حض على الخير ومدح لفاعله، ومن ثم تتبع الباحث وسائل التحلي بالخير والتخلي عن الشر من خلال القرآن الكريم، والسنة النبوية؛ فما فعل إلا أن أورد نصوصا تحض على فعل الخير، وتنهى عن الشر.
ويخلص الباحث إلى أن الدين الإسلامي جاء حاضًا الناس على فعل الخير، ومنبثق هذه الخيرية على عقيدة موجهة للمسلم، وبالتالي فإن ما يصيب الأمة اليوم هو نتيجة لضعفها العقدي، وضعفها الأخلاقي، ومن ثم يرد الفساد العالمي الحاصل إلى المادية الغربية اللاأخلاقية، داعيا المسلمين إلى استغلال هذه الفرصة لعرض ما لديهم.
أما وجهة نظري فإن النظر إلى القرآن بإطلاقية تنفي التاريخ، وتجعل منه نصا مطلقا حاملا للحلول لكل المشكلات في نصه لن تبرح أن تسقط مبتغاها على النص، مبطلة في ذلك دعواها بالتزامها النصي به، وبالتالي فالتعامل مع القرآن بوصفه خطابا متفاعلا مع الإنسان وقت تنزله، كما وقت تلقيه في أي عصر هو الأجدى والأصح، كما أن خلط المفاهيم لمجرد التشابه اللفظي بين المصطلحات يخرج موضوع البحث عن مراده ومقصوده، ويوقع المتلقى في خدعة لفظية تنهدم بأقل نظر فيها. ومن هنا، فرأيي أن الباحث عمد إلى إسقاط وظف فيه النص توظيفا ساذجاً بغية اختزال الحل في قراءته المفتقرة للعمق الفلسفي للأمة الأخلاقية، متجاهلا البعد التاريخي/الاجتماعي الموضوعي لدراسة القرآن، كما في دراسة الواقع.
