الفقه والسلطة السياسيَّة

مُحمَّد السيفي

إنَّ الرأيَ الفقهيَّ لا يكُون مُطلقا ولا مُجرَّدا، بل هو محكومٌ بمؤثِّرات داخليَّة وخارجيَّة؛ فالحالة النفسية والثقافية للفقيه تكون مُؤثِّرة في رأيه الفقهي، كما يكُون للظروف: الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والبيئية، التي ينشأ فيها الفقيه أثرها فيه، وكذلك فإنَّ الفقيه يُرَاعي الظروف التي تحيط بالمسألة التي سيبدي فيها رأيه، كما يراعي حال وظروف صاحب المسألة. لهذا؛ فإنَّه وعند دراسة التراث الفقهي لا بد أن تراعى كل هذه الظروف، وإلا فإنَّ أي دراسة للتراث لا تنظر إليه تحت ضوء هذه الظروف -وبنظرة تاريخية- ستكون مخلة في فهم التراث، وعاجزة عن مُوَاكبة الحاضر؛ ولهذا سعى الباحث خالد المشرفي في مقاله المنشور في مجلة "التفاهم" تحت عنوان "التراث الفقهي بين الفقيه والسياسي"، إلى النظر التراث الفقهي في ضوء العلاقة بين الفقيه والسلطة السياسية.

إنَّ فهمَ العَلاقة بين الفقيه والسلطة (السياسية) في التاريخ الإسلامي لا يُمكن أن يتحصَّل بصورة موضوعية إلا بشروط؛ منها:

- الشرط الأول: تحديد ما يمثله الفقيه في التاريخ الإسلامي تحديدا يجعله واضحا غير مُلتبس بغيره من المصطلحات التي تسقط عليه كـ"المثقف أو رجل الدين".

كان الفقيه في التاريخ الإسلامي عالما بالعلوم المتاحة في عصره كالتاريخ والأدب والسياسة...وغيرها؛ فمن هنا هو مثقف أو عالم فهو يمثل "سلطة علمية"، وكان الفقيه -أيضاً- عالم الدين والمتحدث باسمه والمدرك لمعاني نصوصه، بل هو وريث النبي فهو يمثل "سلطة دينية".

والآن.. إذا نظرنا -ماضيا وحاضرا- إلى هاتين السلطتين -العلمية والدينية- في مجتمعنا الإسلامي؛ أيهما أكثر وضوحا وأشد تأثيرا فيه؟

لا شك أنَّنا نتَّفق على أنَّ السلطة الدينية هي الأكثر وضوحا والأشد تأثيرا فيه، بل إنَّها اخترقتْ السُّلطة العلمية وظلت خاضعة لها؛ لهذا نجد أنَّ الكثيرَ من تراثنا العلمي يكون تحت رقابتها؛ لهذا اضطرت السلطة السياسية للسعي -ماضيا وحاضرا- إلى كسب هذه السلطة ومحاولة وتوظيفها.

ومن خلال ما تقدَّم، يتبيَّن أنَّ إشكالية الفقيه الأبرز في المجتمع الإسلامي -ماضيا وحاضرا- من خلال تمثيله سلطة دينية. ولكن يُمكن البحث في علاقة السلطة العلمية بالسلطة السياسة في ما كتبه هؤلاء الفقهاء في كتبهم عن الحركات المعارضة للسلطة السياسية، والذي ظلَّ تصوُّرا مُهيمنا على المجتمعات الإسلامية عن هذه الحركات.

- الشرط الثاني: الفصلُ المحكم بين السلطات السياسية التي حكمت الأقطار الإسلامية، وبعد ذلك تكون دراسة علاقة كل فقيه بالسلطة السياسية التي تحكمه؛ فالخلاف السياسي الأول هو الذي تكوَّنت منه المذاهب العقدية التي ظلَّت تحكم علاقة الفقيه بالسلطة السياسية؛ فكان الإنتاج الفقهي -خصوصا ما له علاقة بالسلطة السياسية- محكوما بالمذهب العقدي لهذا الفقيه؛ فالفقيه الإباضي في الدولة الأموية -التي يعتقد أنها غير شرعية- لا شك أنَّ فقهه يختلف عن فقهه وهو في دولة الإمامة التي يُقر لها بالشرعية، بل هو جزء من تكوينها، ويراها امتدادا للحكم النبوي.

ويَرَى خالد المشرفي أنَّ السلطة العلمية -ويمثلها الفقيه- كانت في "انسجام تام وتوافق كبير" مع السلطة السياسية طيلة الخلافة الراشدة، "تلتها مرحلة أخرى انفصلت فيها هاتان السلطتان لتشكلا فضاءين بينهما منطقة تقاطع ساخنة ومشوبة بالحذر؛ فالسياسي يريد أن يضمن ولاء الفقيه ولو بالقوة عن طريق البيعة، ويأبى الفقيه إلا الاعتصام بفضائه العلمي، بل والقيام بأعمال كالحشد والتأليب ضده، ضمن استخدام مباشر لنفوذه بين الجماهير".

ويعلِّل خالد هذا الانسجام وهذا التنافر بين السلطتيْن بقوله: "إنَّه من الطبيعي جدًّا أن يوظف الفقيه منظومته الفقهية لصالح السلطة عندما يكون منخرطا فيها، فيما تسعى السلطة لخدمة الدين والمجتمع، وهذا هو مطلب الفقيه ومبتغاه. أمَّا عندما تنفصل السلطتان العلمية والسياسية، فإنَّ الفقيه ينزوي بعيدا عن معترك الحياة، غير آبه لما يدور حوله، مُحمِّلا السلطة السياسية تبعات كل ما يحدث، ويتَّجه نحو الفقه الفردي الذي يهتم بالفرد كشخص لا بالمجتمع كأمة، ويهتم بالخلاص في الآخرة وبراءة الذمة من عهدة التكليف".

وكما بيَّنتُ سابقا في الشرط الثاني، فإنَّ إدراك طبيعة السلطة السياسية -التي تحكم دولة الفقيه- هو الذي يسمح بدراسة علاقة الفقيه بالسلطة السياسية دراسة موضوعية دقيقة؛ فالنظام السياسي في عهد "الخلافة الراشدة" يتكوَّن من الخليفة الذي هو الحاكم والصحابي والفقيه، ومحوط بالصحابة والفقهاء الذين بايعوه وأقروا بشرعيته؛ فالخليفة يتكلم بالدين لأنه هو الفقيه، وهو -أي الخليفة- الفقيه الذي يتكلم بالسياسة لأنه هو الخليفة، وكذلك فإنَّ المجتمع -في عمومه- كان يُقرُّ لها بالشرعية، ولم تتوسَّع بالمقدار الذي توسَّعت به في الدول اللاحقة، لذلك لم تبرز السلطة الدينية كما برزت في الدول اللاحقة.

أمَّا الدولة الأموية، فهي خلافة جاءت بقوتها لا بشرعيتها، بعد الخلاف السياسي الذي حصل في نهاية دولة (الخلافة الراشدة)؛ لذلك احتاجتْ لكي تقيم نفسها إلى شرعية تكتسبها من السلطة الدينية المتمثلة في فقهاء الصحابة والتابعين الذين تباينتْ مذاهبهم تجاهها؛ فمنهم من عارضها وخرج عليها، ومنهم من اعتزلها، ومنهم من لم يخرج ولم يعتزل ولكن لم يُعِنْها على ظلمها، ومنهم من كان من عمالها وخدمها؛ فكان وسيلتها إلى رقاب الناس وحقوقهم.

يرى الباحث أن تأثر الفقه بالواقع السياسي من خلال طريقين: "الأول: التدخل المباشر من قبل السياسي في الفضاء الفقهي؛ باختراقه وبث الأفكار التي تخدم أهدافه؛ من خلال وضع النصوص واختلاقها، أو من خلال تبنِّي النظام لأشخاص يستفيد منهم في إكسابه الشرعية بين الجماهير، وتوجيه الآراء الفقهية بما يخدم النظام. والثاني: التأثير؛ من خلال مبدأ التدافع بين الفضاءين، ومحاولات بسط النفوذ والاستحواذ على السلطة العلمية من جهة، ومن جهة أخرى مدافعة ذلك بالوسائل العلمية".

ويُركِّز المقال على بحث الفقيه من النوع الثالث حسب التقسيم السابق؛ فيقرأ الباحث مشروع الشافعي الأصولي بأنه محاولة لتسييج الفقه من السلطة السياسية، وهذا الكلام محل نظر عند بعض الباحثين. ثمَّ يتتبع الباحث آراء المذاهب الفقهية في بعض مسائل الزكاة، رابطا إياها بموقفهم من السلطة، وبأهدافهم السياسية، ولكن لا يمكن التسليم للباحث في تحليله للآراء الفقهية التي توصل من خلالها لموقف المذهب أو الفقيه من السلطة؛ لأنها قراءة تختزل العملية الفقهية بالموقف من السلطة.

أخبار ذات صلة