سيف الوهيبي
لم تعُد المُدن الفاضلة أو اليوطوبيات بمسماها الغربي والتي نادى بها الفلاسفة في الماضي، موضوعاً جذاباً في القرن الواحد والعشرين، القرن الصاخب الذي تطورت فيه الصناعات بشكل هائل، حاملة انفجارا في تقنيات الكمبيوتر والإنترنت، وظهرت قوى صناعية عظمى. ورغم عديد المحاولات لإحياء أفكار المدن الفاضلة، إلا أنَّ هذه المدن النموذجية إما أنها تعرضت للسخرية والاستهزاء، أو أنها هُمشت ولم تعد تحظى بالثقة لا على المستوى الفلسفي ولا حتى على المستوى السياسي. والمدن الفاضلة هي مقترح لمدينة جديدة مُختلفة عن كل مُدننا لا تختلف في المظهر العمراني فقط بل في كل شيء، في المستوى الحضاري والسكاني والأداء الخدمي الحكومي والخاص، وربما يمكن القول بأنَّ من الصعوبة بمكان اليوم الكتابة في اليوطوبيا، أو رسم مدينة فاضلة؛ بعد ما حدث في القرن الواحد والعشرين، وما يحدث في القرن الحادي والعشرين من كوراث يصعب احتمالها؛ لذلك فقد المعاصرون الثقة في نظرية المدن الفاضلة. وفي هذا السياق، سندرس مقالة بعنوان "المدن الفاضلة عند المسلمين والأوربيين في الأزمنة الوسيطة"، وسنقف على مقارنة بين نموذجين مهمين أحدهما من العصر الوسيط الإسلامي، والآخر مسيحي من العصر؛ وربما لا يتسع المجال هنا لتفاصيل المدينتين؛ لذلك سنذكر أهم مرتكزاتهما .
أولاً: المدن الفاضلة في الفكر الإسلامي
الفارابي في الميزان
أشهر كتب الفلسفة السياسية الإسلامية لأبي نصر الفارابي، إن لم يكن أشهرها على الإطلاق، ترجم إلى أكثر لغات العالم انتشاراً، حيث نقله دييتريسي إلى الألمانية والفرنسية عام 1900، و(ألونسو 1961-1962) إلى الإسبانية، ونقله إلى اللسان الإنجليزي (ريتشارد فالرز 1985)، أمسى حينها من كلاسيكيات الفلسفة في العصر الوسيط، حيث لاقى رواجاً لدى فلاسفة الإسلام وامتد تأثيره آنذاك لدى كل من فلاسفة اليهود والنصارى. تتلمذ ابن رشد في بداياته الأولى على تصانيف الفارابي، ونال تقريظ ابن سيناء في مناسبات عدة، كما أفاد ألبير الكبير من كتبه المنطقية، ونهل توما الأكويني من آرائه عن العقل الفعَّال، واستند إليه روجيه باكون باعتباره محجة في أمور اللاهوت والدين، وأعجب بيك الميرندولي بأسلوبه الأنيق التأملي، والقائمة لغير هؤلاء تطول. وكغيره من الأعمال، اصطدم الكتاب بجمهور معاد خاصة من قبل الليبراليين والماركسيين، واصفين الكتاب بالرجعي المُتخلف، والمعادي للمجتمع المفتوح، وقد حاول المستشرق ريتشارد فالتزر النيل من الكتاب ومحاولة تقطيع فقرات منه، إلا أنه فشل في ذلك المبتغى، فيما حاول بعض الباحثين العرب التشكيك في أصالة الكتاب وظروف تأليفه؛ بسبب اختياره لآراء الفلسفة الإغريقية، ولنزعته القومية، التحررية، العربية، والديموقراطية.
المدينة الفاضلة الفارابية
يبدأ كتاب آراء المدينة الفاضلة فصوله في القول في الموجود الأول (الله)، وفي نفي الشريك، وفي الضد والحد عنه، وفي كونه عالما حكيماً، وحقا وحياً وحياة، وفي عظمته وجلاله ومجده ... ، ثم بالحديث عن نشأة الموجودات ومراتبها، ثم بالحديث عن الحركة والصورة والمادة، من ثم يأتي دور الحديث عن الإنسان، وعن عقله الفذَّ، ثم ينتقل إلى التأسيس السياسي والاجتماعي للمدينة الفاضلة، وفيه فصل "في القول في احتياج الإنسان إلى الاجتماع والتعاون" وفصل "في القول في الأشياء المشتركة لدى أهل المدينة الفاضلة"، وفي فصوله الخمسة اللاحقة: معرفة الرئيس الأول وكيف يكون الوحي، ومعرفة أهل المدينة الفاضلة أو السعادة التي تصير إليها أنفسهم، ومعرفة المدن المضادة ومآلات أنفس أهلها بعد الموت، ومعرفة الأمم الفاضلة والأمم المضادة.
ونلاحظ أنَّ المدينة الفاضلة الفارابية مبنية على مفهوم الاجتماعات الإنسانية، وهي لدى الفارابي قسمان: اجتماعات كاملة، واجتماعات غير كاملة، مصنفة من الأكبر للأصغر: القرية والمحلة؛ فالسكة، والمنزل. أما الاجتماعات الكاملة، فهي: عظمى(اجتماع البشرية)، ووسطى(اجتماع الأمة)، وصغرى(اجتماع المدينة). وتُبنى المدينة الفارابية على المماثلة(المدينة الفاضلة والبدن الصحيح)، فالمدينة الفاضلة كمثل البدن الصحيح الذي تتعاون أعضاؤه كلها، على تتميم حياة الكائن الحي والحفاظ عليه، ولابد للبدن من عضو رئيس وهو القلب؛ فكذلك بالمثل لابد للمدينة من رئيس، وهو الإمام كما سماه الفارابي، ومثلما أن أعضاء البدن كل موكل لما يسر له؛ فكذلك للرئيس فريق يساعده في مهامه، وكما أن تحت كل عضو مساعد أعضاء تساعده؛ فكذلك ثمة أعضاء يخدمون مساعدي الإمام، وهكذا دواليك تمضي الأعضاء في تراتب وظائفها إلى أدناها منزلة، ولكن القلب مثلما أسلفنا ذكره وهو الإمام، يجب أن تتوافر لديه اثنتا عشرة خصلة، وهي: تمام الأعضاء، وجودة الفهم، وجودة الحفظ، وجودة الفطنة، وحسن العبارة، ومحبة الاستفادة، وعدم الشراهة والتطرح إلى الملذات والملاهي، ومحبة الصدق، وكبر النفس، وعدم الاستهانة بالمال، ومحبة العدل، وقوة العزيمة. وهي خصال قلما تجتمع في إنسان؛ ولهذا لزم الأمر رئاسة جماعية.
مضادات المدينة الفاضلة
وهي لدى الفارابي أربعة، أولها: المدينة الجاهلية وهي التي لا يعرف أهلها معنى الحق(السعادة)، فجُلَّ ما يعرفونه هو الخير الشبيهي(السعادة المتمثلة في سلامة الأبدان وفي اليسار)، في التمتع بالملاذ والتطرح في الهوى، وللمدينة الجاهلية ستة أنماط: المدينة الضرورية، والبدالة، ومدينة الخسة والشقة، ومدينة الكرامة، ومدينة التغلب، والمدينة الجماعية.
أما الثانية فهي المدينة الفاسقة، معتقدها معتقد أهل المدينة الفاضلة وفعلها فعل الجاهلية. والثالثة، المدينة المبدلة وهي عنده غير المدينة البدالة، وقد سميت بذلك لأن آراء أهلها تبدلت عن آراء المدينة الفاضلة وأفعالها، بحيث استحالت هي إلى ما يناقضها. أما الرابعة، فهي المدينة الضارة وهي مدينة الخروج عن المعتقد الأساس، ومدينة المتنبي لا النبي.
ثانياً: اليوطبيات المسيحية في العصور الوسطى
كوكانيا في الميزان
ظلت المسيحية حتى أمد طويل هي التي تلهم الفكر الأوربي في العصر الوسيط، ولا يتصور الفكر المسيحي وفق أفكاره الممتدة مجتمعا دنيويا كاملا، إلا مجتمع المصطفين الذي يسبقه مجتمع الكهنة ويمهد له، ولا تتحقق هذه الصورة إلا في نهاية الزمان، وفي الزمان غير الزمن البشري، بل وحتى خارج التاريخ؛ لذلك لن نجد شبيهاً للمدينة الفاضلة الفارابية عند أهل تلك العصور؛ لأن من يخالف الكنيسة في ذلك الوقت يُزندق ويكفر، حتى مدينة الله التي قال بها القديس أوغسطين، ليست من المدينة الفاضلة في شيء، فهي كما دل عليها اسمها مدينة لله لا للبشر، وهنا مُشْكَل البحث في يوطيوبيات العصر الوسيط، يقول المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف واصفاً المدن الفاضلة في العصر الوسيط: "لئن كانت هناك ثمة مُدن فاضلة مسيحية، فإنِّما هي مدينة أخروية قيامية بالمعنى الاشتقاقي الذي يوجد في الوحي، وموجودة في العالم الآخر".
بمعنى أنَّه من الصعب تصور يوطيوبيا في العصر الوسيط خارج نطاق المسيحية أو مدينة فاضلة كاملة المعالم، إلا أنَّ مدينة كوكانيا كسرت كل القيود وهي يوطيوبيا نشأت منتصف القرن الثالث عشر، وقد دوِّنَ نص هذه المدينة شعراً، ونُشرت بعدها نشراً محققاً عام 1947م، وهي رسالة واضحة للتحرر من محرمات المجتمع المسيحي آنذاك، ونداء للحرية والاستمتاع بحثاً عن سعادة آنية دنيوية على هذه الأرض، وهي أيضاً تعبير لنقد بنيوي وظرفي في آن واحد للمجتمع المسيحي وقيِمه المتزمتة، وقد جاءت لتعارض مفاهيم التوبة، والنسك، والزهادة، والتقشف في اللذات والمتع والطرب، كما واجه كوينكا المنع والحظر والإباحة بالسماحة والحرية والعفوية في مدينته.
