الحركة الإنجيلية... نظرة عميقة وتحليل الواقع

أيمن البيماني

أدّت الحملات التبشيرية والطموح التنصيري الواسع إلى ظهور طاغٍ للحركة الإنجيلية في أوروبا والعالم، والإنجيلية هي حركة دينية مسيحية تبنّتها مجموعة من البروتستانتيين المحافظين والملتزمين بالكتاب المقدّس كمصدر وأساس للدين المسيحي، وهو ما جعل ثلثي البروتستانت حول العالم (حوالي نصف مليار) يتحوّلون لهذه الحركة الإنجيلية الحديثة. ونناقش اليوم مقالة رائعة للكاتب (سباستيان فات) والمنشورة في مجلة التفاهم بعنوان: (الإنجيليات الجديدة واهتماماتها السياسية والاستراتيجية).

تمخّضت عملية ولادة الحركة الإنجيلية والكنائس الإنجيلية إبّان القرن السادس عشر الميلادي في أوروبا، رغم ذلك بقي الإنجيليون الأوائل عرضة للاضطهاد بين القرنين السادس عشر والثامن عشر الميلاديين، حتى اشتدّ عود هذه الجماعات مع مرور الوقت، وشهدت موجات نهوض مثيرة ومؤثّرة في التاريخ البروتستانتي، مستمدّة قوتها وطاقتها من بعض الحركات الحماسية آنذاك مثل المعمدانية والصراطية وغيرها. وبعد أن كانت الإنجيلية ذات تأثير خفي وبسيط لفترة طويلة؛ تغيّر المعطى اليوم، وأصبح للإنجيليين دورٌ فاعلٌ وقويٌ في الخارطة السياسية الدينية في أوروبا وأمريكا والعالم.

يشهد التاريخ أن الحركة الإنجيلية طغى عليها الطابع الأنجلوسكسوني، والأنجلوساكسونية هي قبائل الإنجليز والساكسون والبوت التي غزت وسكنت بريطانيا، وبعد فترة من استيطانهم انضمّت المجموعات الثلاث في مجموعة واحدة تدعى (الأنجلو-ساكسون).

في أمريكا وخلال عام 1980م لاحظ الباحث (دين لاكورن) أن الحركة الإنجيلية أصبحت أكثر تداولًا ورواجًا للبروتستانتية الأمريكية، وبالتالي هي قادرة على إثراء الديموقراطيين والجمهوريين بشكل أكبر، الأمر الذي شغل عقل باراك أوباما فيما بعد ودعاه إلى دعوة مسؤولي الجمعية الوطنية للإنجيليين عام 2012م إلى البيت الأبيض لمناقشة القضايا التي تخصّهم مثل الهجرة الدينية والأخلاق وغيرها، وذلك لإيمانه الشديد والقاطع بقوة هذه الشبكات والحركات الدينية على المستوى العالمي، وجعلها واجهة لتصدير الديمقراطية الأمريكية ودعم الشركات والمجتمعات المحلية في أمريكا وخارجها.

بات واضحًا مع مرور الوقت تأثير الإنجيلية البريطانية على الكنائس الأخرى في أوروبا ودول الكومنولث وبالأخص إفريقيا، وتأثيرها أكبر في النواحي السياسية في الدول مثل كنيسة الأسقفية -المتميّزة بطابعها الإنجيلي- في جنوب السودان ودورها في بناء مسارات الدولة السياسية، وهو ما يشير إلى صعود الحركات الإنجيلية من الجنوب -في أفريقيا- مقابل انحدار التأثير المسيحي الأمريكي في كبريات الدول الأوروبية، وبالتالي لا يتأثر اليوم الجمع الأعظم من المبشّرين الإنجيليين حول العالم من الولايات المتحّدة، بل ظهرت بلدان من القرن الأفريقي تغذّي النشاط التبشيري العالمي، وتشهد تزايد الإنجيليين فيها مثل نيجيريا (45 مليونًا)،  والبرازيل (45 مليونًا)، وكينيا (20 مليونًا)، والكونغو الديموقراطية (15 مليونًا)، وكوريا الجنوبية (10 ملايين إنجيلي)، وحتى الصين التي قد يصل عدد الإنجيليين فيها إلى حوالي 60 مليونًا !

هذه التكتّلات والأعداد الضخمة لهذه الحركة طغت بشكل كبير على أوروبا والعالم، فأصبحنا نرى موجة كبيرة من الإنجيلية الحديثة عبر تأسيس ووجود المئات من الكنائس الكونغولية والغانية وغيرها منتشرة في ضواحي لندن وباريس وباقي كبريات المدن الأوروبية.

لا يمكن لهذا المدّ الإنجيلي الرسوخ والثبات دون صراعات مع أديان أخرى لاسيما الإسلام؛ فالتنافس بين الإسلام والحركة الإنجيلية يشهد عليه ثلاثة فضاءات وهي: جنوب شرق آسيا وأوروبا والعالم، حيث تجوب الجماعات الإنجيلية الدعوية والتبليغية التجمّعات السكنية في هذه الفضاءات بحثًا عن مهتدين ومتحمّسين جدد للدين.

يعتمد صُنّاع الحملات التبشيرية في خططهم الدعوية على قاعدة 10/40، وتعني التركيز في المشروع التبشيري-الإنجيلي على المناطق الواقعة بين خطّي عرض °10 و °40 شمال خط الاستواء، مدعومة بحركات إعلامية مثل حرق القرآن ونشر الأفلام الداعمة لكره المسلمين، مما قد يصل بهذا الأمر إلى حدّ الإسلاموفوبيا والذي يعني التحامل والكراهية للإسلاميين والمسلمين. وقد أشارات رسالة دكتوراه بعنوان: (النشاط التبشيري للإنجيليين في الشرق الأوسط) للباحثة فتيحة قواس إلى مثال مؤجج لكره المسلمين (آرغون ميكائيل كانر) مؤلف كتاب (كشف حقيقة الإسلام) والذي بيع منه قرابة الربع مليون نسخة، ويتحدّث فيه عن انحداره من عائلة مسلمة، ويصف فيه الإسلام بأنّه سيء الجوهر ومهدد للحريات. ورغم نشر بحث مدقق عن كذب (كانر) وتزويره للحقائق عن نشأته وعن الإسلام؛ إلا أنّ أفكاره لاقت رواجًا واسعًا آنذاك ولغاية اليوم! وقد أسهم أمثال كانر في تأجيج مخاوف الغرب ضد الإسلام وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وزادت من حدّة الافتراءات على الإسلام والمسلمين.

رغم كل ذلك يبقى التنافس الإسلامي- الإنجيلي ذا طابع سلمي نوعًا ما، فهو ليس حربا أو عداوة كبيرة، فالخصم ليس دائمًا عدوًّا لدودًا، والإنجيلي يريد أن يرى نفسه ضمن رؤية علوية توحيدية للعالم مثلما يطمح إليها المسلم. بل إن هناك دولًا وأفرادًا يسعون إلى تخفيف حدّة الصراع بين الإسلام والإنجيلية مثل سويسرا التي عبّرت عن رفضها الصريح لمثل هذه النقاشات والانشغالات، وكذلك الفرنسي-المغربي من أصول مسلمة (سعيد أوجيبو) الذي يُلقي محاضرات وندوات في فرنسا هدفها تخفيف حدّة التنافس بين الحركة الإنجيلية والإسلام.

جدير بالذكر أنّ هناك ثلاثة وسائل اجتماعية مُستجدّة تضفي طابع التأثير العالمي للحركة الإنجيلية المعاصرة وهي:

1. الموسيقى الغربية المُغرية للمجتمعات والتي تمثّلها بشكل أساسي موسيقى الغوسبل (موسيقى الإنجيل)، حيث طوّرت الغوسبل طرق إنشاد متنوّعة ومتلائمة مع مختلف المجتمعات الداعمة للإنجيلية.

2. التنامي المضطّرد للمنظمات غير الحكومية الداعمة للإنجيلية والمتخطية لحدود الدول والقارات مثل منظمة سماريتان بورس التي تفوق ميزاتيتها السنوية ثلاثمائة مليون دولار، وتهتم المنظمة بالاستثمار في الكنائس والأعمال التبشيرية.

3. الكنائس العملاقة التي لديها القدرة على استيعاب أكثر من ألفين من الأتباع كل أسبوع، والتي يبلغ عددها اليوم أكثر من 1400 كنيسة موزّعة على كافة القارات من شرق الكرة الأرضية لغربها، ومن شمالها لجنوبها.

 

أخبار ذات صلة