المدرسة الظاهرية وتأسيسها

سلطان المكتومي

أَوْجَد المجتمع الإسلامي -مثل المجتمع الغربي- مدارس تمَّ تأسيسها من قبل علماء أو أثرياء؛ بهدف نشر العلم، وتبني أفكار عالم بارز في ذلك المجتمع، أو عِدَّة علماء يتبنون فكرة معينة لنقلها عبر الأجيال، وهي بمثابة مُؤسَّسات علمية أو خيرية.. هذه المؤسسات قامتْ بدور كبير في حياة الناس، وتدبير أمورهم من ناحية، وفي تحديد إسهاماتهم في الحضارة الإنسانية من ناحية أخرى. وقد كتب فيصل الحفيان -في مجلة "التفاهم"- مقال "المكتبة/المدرسة الظاهرية: تاريخ من العلم والتعليم"، وتناول أهمية المدارس الإسلامية، واتخذ من المدرسة الظاهرية نموذجا؛ حيث تناول الكاتب مُؤلَّف عبدالقادر النعيمي -المتوفى 927هـ- "الدارس في تاريخ المدارس"، والذي خصَّصه لهذه المؤسسات، والتي كانت بين القرنين الخامس والعاشر الهجريين في دمشق وحدها تتكون من 158 مدرسة.

في هذه المدارس كانت تتم حركة انتقال العلم عبر الأجيال، المشايخ يلقون، ومريدوهم يتلقون، أو يأخذون. ومع التعليم تجري العملية نفسها، وتتماثل تلك المؤلفات في اختلاف أشكالها (التأليف، النقد، التعليق...إلخ)، وكأنها عصارة فكر أولئك الأساتذة، وخلاصة تجربتهم مع العلم والتعليم. ومن وجهة نظري، أن تلك المدارس مهمة جدا حتى في هذا العصر؛ لأن التلميذ غير مُقيَّد بالمنهج فقط، يتلقى الدروس من أستاذه، وهو يستمع، وقد تتاح له الفرصة في التعليق أو إبداء الرأي، وقد يعطى مهمة في بحث مسألة من أستاذه الذي لم يبحث عنها بشكل مستفيض. لا أبالغ في القول إنَّ تلك المدارس كانت بمثابة تحضير دكتوراه، ولو وجدت هذه المدارس لمواضيع علوم أخرى مثل الهندسة، لكُنا قد وضعنا لنا مكانا في هذا العصر المتقدم ولنافسنا الغرب.

ويُكمل الكاتب بأن تقليب النظر في كتاب النعيمي، واستخلاص ما تحمله الألفاظ وظلالها من معان، يُؤدي بنا إلى أن نلمس تلك التقاليد التي كانت تسود الحياة العلمية ومؤسساتها في ذلك الزمان الغابر، ونتوقف هنا عند بعضها.. باختصار:

- حظيت هذه المؤسسات التعليمية بمكانة عالية، قد لا تدانيها فيها مؤسسات أخرى؛ نظرا للمكانة التي يحظى بها العلم نفسه.

- هذه المكانة لم تجعل منها مؤسسات رسمية؛ بمعنى أنها لم تصبح عملا من أعمال الدولة، تُنشئها وتقوم عليها؛ بل ظلت منجزات فردية، ينهض بها أشخاص قد يكونون ملوكا أو أمراء أو علماء أو أثرياء، ويجرون الأوقاف عليها.

- اتَّسمت هذه المؤسسات (المدارس) بالتركيب؛ فهي ليست مجرد مدارس تتم فيها عملية التعليم؛ لكنها تستلزم بالضرورة مكتبات أو خزائن كتب، وكأن هذه الأخيرة مؤسسات رديفة تدخل في نسيج المدارس ذاتها؛ إذ لا يصلح علم أو تعليم دون كتاب.

 

هوية الظاهرية

تسمع اسم "الظاهرية"، فينصرف ذهنك رأسا إلى "المكتبة الظاهرية" التي تعرف في دمشق، والتي أصبحت اليوم جزءا مما يطلق عليه "مكتبة الأسد الوطنية"، لا تستدعي الذاكرة غيرها: مكتبة فحسب، ومسمى واحد لا غير.

فقد أنشئت هذه الظاهرية/المكتبة عام 1895م، وقام بالعبء الأكبر في إنشائها، بل في بعث فكرتها أساسا، العلامة الشيخ طاهر الجزائري -المتوفى 1920م- وساعده في ذلك مدحت باشا والي دمشق، وعدد من أعيان دمشق وعلمائها ووجهائها. ومما يذكر أنَّ للجزائري فضلا آخر في إنشاء مكتبة أخرى معروفة، وهي المكتبة الخالدية في القدس. كان الجزائري أول مدير لدار المكتبة الظاهرية -كما كان اسمها عند إنشائها- وفيها 28 دفترا بخطه، احتوت على تراجم ومذكرات وفوائد تاريخية وأسماء مخطوطات مما رآه، أو قرأ عنه.

 

المكتبة /المدرسة

هذه المكتبة التي قام عليها الشيخ طاهر الجزائري في أواخر القرن التاسع عشر أُنشئت في إحدى مدارس دمشق القديمة، هي المدرسة الظاهرية الجوانية، وقد وصف النعيمي مكانها، وقال: "داحل بابي، ولفراديس بينهما، جوار الجامع الأموي شمال باب البريد، وقبلي الإقبالتين والجاروخية، وشرقي العادلية الكبرى (يريد المدرسة العادلية) بابهما متواجهان، بينهما الطريق، بنيت مكان العقيقي، وهي كانت دار أبي أيوب، والد صلاح الدين". ما فعله الجزائري أنه اختار قبة هذه المدرسة القديمة، فجعل منها دار كتب، وجُعل معظم الكتب في خزائن على ضريح الملك الظاهر وأبيه الملك السعيد. والطريف أن المكتبة في القبة، وأنها مدرسة ابتدائية حديثة في جزء من المدرسة القديمة فكأن رسالة المدرسة القديمة بعثت من جديد.

وإذا كانت الظاهرية الحديثة امتدادا للقديمة؛ فإن القديمة ترجع -فيما يقول ابن كثير- إلى سنة 676هـ، ففي يوم السبت الموافق التاسع من جمادى الأولى شرع في بناء الدار التي تعرف بدار العقيقي تجاه العادلية، لتجعل مدرسة وتربة الملك الظاهر، العقيقي هذا توفي سنة 378هـ. ونقل النعيمي عن ابن قاضي شهبة أن الظاهر اشترى داره وبناها مدرسة، وقارب تاريخ ذلك، ولم يحدده.

 

الظاهرية /الظاهريات

سبق أن المدرسة الظاهرية منسوبة إلى الظاهر، والظاهر هو الظاهر بيبرس أحد سلاطين المماليك، وسبق أن هذه المدرسة عرفت بالمدرسة الظاهرية الجوانية، والجوانية في مقابل البرانية، فثمة مدرسة أخرى هي الظاهرية البرانية ذكرها النعيمي، لكنَّ الأخيرة لا علاقة لها بالظاهر بيبرس؛ إذ نسبتها للظاهر غازي بن صلاح الدين.

 

مكان الظاهرية

لا تزال ظاهرية بيبرس قائمة، أو آثارها على الأقل تدل عليها، وقد كتب محمد علي في الربع الأول من القرن العشرين مقالا -نُشر في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق (مجمع اللغة العربية اليوم)- وجمع فيه بين الظاهرية والعادلية، وقال عنهما: إنهما من أهم مدارس دمشق الباقية بعض الشيء إلى اليوم، وذكر أن بناء الظاهرية كان بعد العادلية بنحو ستين عاما.

كما أشار إلى أنه لا يزال في جدار قبة المدرسة نموذج صالح من الفسيفساء في القرن السابع وضروب من الحجر الملون، فالقبة أو ما تحتها من أنفس آثار دمشق.

أخبار ذات صلة