سلطان المكتومي
إن الدارس في تاريخ الفكر الإسلامي، خصوصا في القرون الثلاثة الأولى، يجد انفعالَ الحراك الاجتماعي بالنص المقدس؛ فالمجتمع الإسلامي تفاعل كثيرا مع النص المقدس في هذه المرحلة التاريخية؛ ليعالج المتغيرات الاجتماعية والسياسية والدينية التي كانوا يواجهونها؛ حيث تعد هذه المرحلة من أهم مراحل التاريخ، التي وجد المسلمون فيها أنفسهم في مواجهة مباشرة مع النص دون الرجوع إلى النبي، ولأنها ثانيا تعد من أهم المراحل التاريخية التي تأسست فيها الحركات السياسية والفرق المذهبية ومن ثم المدارس الكلامية. وقد كتب أحمد الإسماعيلي على صفحات مجلة "التفاهم" مقالا حمل عنوان "النص والأرض وجدليات العلائق: علم الكلام الإباضي نموذجا".
بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حدثت تغيرات اجتماعية وسياسية؛ مما دفع المسلمين لإعادة قراءة النص المقدس من جديد؛ حيث طرحوا لأول مرة إشكاليات الخلافة التي لم تجد لها مرجعية واضحة، لا في النص القرآني ولا في الفترة الزمنية التي عاشها الرسول الكريم؛ بحيث أصبحت إشكاليات الإمامة الخطوة الأولى التي وجد فيها المسلمون أنفسهم دون اتصال مباشر مع الوحي في فهم الإسلام، كما وجدوا أنفسهم مباشرة أمام فهم معاني النص القرآني.
أشار الكاتب إلى أن هنالك تحولات مهمة بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي أن تلك النصوص المقدسة، المستمدة من النبي الكريم كمرجعية أساسية وحيدة متصلة بالوحي، لم تعد قادرة بعد وفاته على فرض سيطرتها على كافة الإشكاليات الاجتماعية والسياسية، إما بسبب عمومية النص القرآني -الذي يعد المرجعية الوحيدة القادرة على فصل الصراعات البشرية والمتغيرات الاجتماعية- وإما بسبب عدم وجود نص مقدس يعالج المشكلات الطارئة على المجتمع الإسلامي. ولهذا السبب، لجأ المسلمون إلى فهم الممارسات النبوية التي كان يفعلها النبي في حياته، وهو ما عرف لاحقا "بعلم الحديث". ومن وجهة نظري أنَّ السبب ليس في عدم وجود نص مباشر لأي قضية كانت، بل بسبب توجه المسلمون إلى الأحاديث النبوية التي بلاشك من ضمنها أحاديث ضعيفة لم تصح عن النبي الكريم. ويرى الكاتب أن النص المقدس أصبح بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- مفككا بين عقليات متعددة أفرزتها الظروف التاريخية التي كان يعيش فيها المجتمع الإسلامي في القرن الأول الهجري. ومن هنا، نشأ المشكل التاريخي: كيف نفهم النص؟ إن هذه الإشكاليات تبرز بصورة واضحة في الحدث التاريخي المتعلق بالفتنة الكبرى، التي أسست مسرحا من الأحداث التاريخية الكبرى في القرن الهجري وما بعد؛ حيث حاول المسلمون علاج إشكاليات الفتنة الكبرى بتأويل النص المقدس ومحاولة تطبيقه بالقوة على المتغيرات الاجتماعية والسياسية، تؤسسها تلك المناظرات الدينية التي حدثت بين ابن عباس والإمام علي من ناحية، والخوارج من ناحية أخرى. شرح الكاتب فكرة التأويل، وكيف تم من خلالها استنطاق النص بما يتناسب مع اللحظة التاريخية؛ فتأويل عبارة عن تفريغ المعاني التي يحملها النص، وإسقاطها على المتغيرات المادية التي نسميها اليوم الحدث التاريخي.
تأثر فهم المسلمين للنص المقدس في المسائل اللاهوتية بالظرف التاريخي الذي نشأت فيه، فلم يكن فهمهم للنص بريئا من الصراعات السياسية والدينية التي تعيشها المدارس الكلامية، ينبغي إذن أن نقرأ منظومة العلم الكلامي؛ باعتبارها مسائل أنتجها العقل اللاهوتي أثناء انفعال الحدث الاجتماعي السياسي. ثلاثة سياقات تاريخية أسهمت في رسم محددات اللاهوت الإسلامي؛ أولها: الشروط الموضوعية التي أطرت الزمان والمكان الذي نزل فيه النص من السماء إلى الأرض، ومن ثم السياقات التاريخية الاجتماعية والسياسية التي أفرزت الممارسات النبوية للنص في مرحلة الرسالة، وهنالك الشرط التاريخي الذي أنتج جميع الإشكاليات الكلامية أثناء المرحلة التاريخية التي راجت فيها الحرب المقدسة باسم الله بين المسلمين أنفسهم؛ لأن الفاعل الحقيقي في هذه المرحلة هي التناقضات الأرضية المتصلة بعُمق الاضطرابات السياسية؛ فمثالية النص لم تجد لها مساحة واسعة لتقضي على اضطرابات الأرض والإنسان.
إن المدارس الكلامية لجأت إلى العنف لبناء منظومتها الكلامية، وكان ذلك واضحا جدًّا في مسألة خلق القرآن؛ بل وحتى قبل ذلك في منتصف القرن الأول الهجري؛ حيث الجدل الكلامي حول ماهية المؤمن والمراتب اللاهوتية تسيجه بسياجها؛ مؤمن مرة وفاسق أخرى، مسلم تارة وكافر أخرى، زنديق مرة وتقي أخرى. وقد أوضح الكاتب أن مرتكزات الصراع الديني في منظومة علم الكلام إما نتاج خلط بين العقيدة الجدلية كمنتج بشري والوحي كرمز سماوي، أي بين الرمز (الوحي) أو العلامة (النص) والكائن الأرضي (الإنسان)، أو نتاج خلط بين السياسي والديني كمقاربة بنيوية؛ أي بين الوقائع البشرية -كحدث اجتماعي/سياسي أسهم كثيرا في ظهور الإشكاليات الكلامية -وبين النص المقدس كرمز سماوي قبل حراكه الأرضي. إن دراسة علم الكلام بعيدا عن السياق التاريخي يعد قاصرا في الوقت المعاصر؛ لأن المتغيرات السياسية والاجتماعية والدينية التي حدثت في القرون الثلاثة الأولى كان لها دور كبير في إعادة فهم النص المقدس من جديد.
تحدث الكاتب عن لاهوت الإباضية الذي يُمثل عمقا في الدراسات الأكاديمية؛ لأنها تنتمي إلى دراسة حقل مهم من حقول التأسيس السياسي الإسلامي في القرون الأولى، وهو فكر المحكِّمة، الذي يشكل جزءا مهما من أشكال المعارضة في الإسلام السياسي. تكمن أهمية هذا النوع من الإسلاميات في كشف هذه المرحلة التاريخية المهمة التي انتقل فيها النص المقدس من السماء في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الأرض بعد وفاته مباشرة؛ أي أنَّ كل المبادئ الدينية التي كان ينادي بها الرمز السماوي تحولت فيما بعد وفاته إلى مادة قابلة لإعادة الفهم والتأويل والتفكيك والبناء، بما يتناسب وسياقات المجتمع التاريخية التي يتحرك فيها. لهذا؛ أعادت الحركات السياسية بعد أحداث الفتنة الكبرى قراءة النصوص المقدسة المتعلقة بالسلطة السياسية لتشكل فيما بعد ما عرف بالإسلام السياسي.
ويتميز الإباضية بشكل خاص عن المعتزلة بأن لهم مرجعية تاريخية أسهمت في فهمهم لعلم الكلام؛ فهم من المدارس الكلامية التي مارست النضال السياسي ضد الدولة المركزية، لهذا فإن بعض الإشكاليات الكلامية للخوارج لا تستمد مرجعيتها من النص المقدس فقط؛ بل لها مرجعية تاريخية/سياسية تتمثل في مقتل عثمان بن عفان، ومن ثم في أحداث الفتنة الكبرى، وبعده موقفهم من الدولة المركزية الإسلامية بشكل خاص، كل هذه الأحداث التاريخية شكلت وعيا معرفيا كلاميا خاصا للخوارج بشكل عام، والإباضية بشكل خاص، أثرت في فهمهم للنص القرآني.
وأخيرا.. يقول الله تعالى: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْد غَيْر اللَّه لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلَافًا كَثِيرًا" (النساء:82)، اختلاف المسلمين وقع حينما اعتمدوا على الروايات في نهجهم، ولم يعتمدوا على القرآن الكريم، بغض النظر عن عمومية النص القرآني كما أشار الكاتب.
