آراء المجتهدين.. إسهام وتصويب

سُلطان المكتومي

إنَّ الاجتهادَ في المسائل الشرعية طريقٌ شاقة، وقد خصَّص علماء أصول الفقه باباً للحديث عن الاجتهاد وأحكامه، درجوا خلاله على بحث مسألة حكم الاجتهاد والموقف من اختلافات المجتهدين، وهل كل مجتهد مصيب؟ أم أنَّ المصيب واحد، والباقي مُخطئون؟ عرفت هذه المسألة بمسألة التصويب والتخطئة، ومن ذهبوا إلى التصويب عرفوا بـ"المصوِّبة"، على حين سمي من ذهب إلى أن الحق في جهة واحدة "مخطِّئة". وقد حظيت هذه المسألة باهتمام كبير؛ لم يقتصر على كتب الأصول فقط، لذلك وصفها الإمام السبكي بأنها مسألة "عظيمة الخطب"، وقال عنها الإمام أبوبكر بن العربي: "هي نازلة في الخلاف عظيمة".

 وقد بيَّن الكاتب معتز الخطيب في مقاله بمجلة "التسامح" "تصويب المجتهدين: إسهام في تاريخ الأفكار" هذه المسائل، مُحاولا التدقيق في نشأة هذا المقال وتطوره تاريخيًّا، وتفسير كيف ظهر، وفي أيِّ سياقات برزت الحاجة إليه، وكيف لقي مُمانعة قوية، ولم يلق القبول.

 

أولا: أصل المقالة ومفادها

إن مقالة التصويب ترجع أصل نشأتها إلى العنبري الذي كان يقول: "إن القرآن يدل على الاختلاف؛ فالقول بالقدر صحيح وله أصل في الكتاب، والقول بالإجبار صحيح وله أصل في الكتاب. ومن قال بهذا فهو مصيب؛ لأن الآية الواحدة ربما دلت على وجهيْن مختلفين، واحتملت معنيين متضادين". انتهج العنبري صورة عبثية في مسائل الاجتهاد وجعل منها في نظري تناقضات وإذا وجدت مسألة لها ضدان من المحتمل أن لها جوابا يرتبط مع الرأيين؛ فمثلا قال إن من سمى الزاني مؤمنا فقد أصاب، ومن سماه كافرا فقد أصاب، فلابد أن يكون هنالك رأي في المسألة يكون منصفا للرأيين.

 

ثانيا: العنبري.. شخصيته وأفكاره

العنبري هو عبيد الله بن الحسن بن الحصين، والتميمي، والعنبري، قاضي البصرة وخطيبها؛ ولا نعرف له كتاباً، والنصُّ السابق إنما هو حكاية عنه، نقلها ابن قتيبة (276هـ)، وقد حَكَى تلك المقالة عنه أهل الأصول، ولم يعزها واحد منهم إلى كتاب. بحث الكاتب في كتب التراجم والطبقات ليقف على إسناد لتلك المقالة فلم يظفر بها، كما أنه طَاف في ترجمة العنبري ليقف على حقيقة مذهبه ومعرفة شخصيته؛ لعل من خلاله يجد بواعث تلك الفكرة ونشأتها وروافدها.

ابن قتيبة هو أقدم من أتى على ذكر العنبري، فلابد من التدقيق في السياق الذي وضعه فيه، فهو ذكره ضمن تدبره لـ"مقالة أهل الكلام"، وساق أسماءهم فكان منهم: أبو الهذيل العلاف، وعبيد الله بن الحسن، ثم ذكر مقالات النظام وفندها.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ العنبري لا يُمكن تصنيفه إلى أي فرقة -المخطئة أو المصوبة- لأنَّ الكل معه مصيب.

لكن، هل كان العنبري من المتكلمين -خاصة المرجئة أو المعتزلة- كما يفيد كلام ابن قتيبة؟

فتش الكاتب في بعض كتب المعتزلة وطبقاتهم ولم يجد للعنبري ذكرا، بل على العكس من ذلك نجد ترجمته في كتب تراجم المحدثين، ففيها نجد توثيق أئمة الجرح والتعديل له؛ فقد روى له مسلم حديثا واحدا في الصحيح، وروى عنه الإمام الكبير عبدالرحمن بن مهدي، وقال عنه النسائي: فقيه بصري ثقة، وقال فيه ابن سعيد: "كان ثقة محمودا عاقلا من الرجال"، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: "من سادات أهل البصرة فقها وعلما". ولا يكاد نجد للعنبري مقالات في علم الكلام سوى خبر غريب يورده وكيع عن العنبري بإسناده إليه في كتاب "إسماعيل بن حماد الجوهري"، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق أحمد عبدالغفورعطار، ط4، بيروت، دار العلمل للملايين 1987م، ج4، ص155.

 

ثالثا: نشأة المقالة وتطوراتها

وبالجملة، فما لدى الكاتب من معلومات عن شخصية العنبري يدل -فيما يرجحه- على أنه من أهل الرأي، والله أعلم. ولكن من أين برزت تلك المقالة التي يصوب فيها جميع المجتهدين؟

البحث في سيرة الرجل وما وصلنا من أفكار لم يكن كافيا للوقوف على منشأ القول ومؤثراته، ولكن قد انتهينا إلى أنه قاض وفقيه ومن أصحاب الرأي، وقد عدت له غرائب، ورمي بالبدعة، ومع ذلك كان من علماء السنة.

ومع نفينا كون العنبري من أهل الكلام؛ فإنه لم يكن بعيدا عن المجادلات الكلامية التي سادت البصرة في ذلك الوقت، فواصل بن عطاء (131هـ) كان تلميذ الحسن البصري (110هـ)، "وكان يقرأ عليه العلوم والأخبار"، و"من نظر في الأخبار علم أن أول من صنف وتبتل للرد على المخالفين بالكتب الكثيرة هو أبو حذيفة واصل بن عطاء، وقد كان الحسن بن أبي الحسن البصري صنف مسألة عبدالملك بن مروان، بين ما يقوله من التوحيد والعدل، وبين أن من تقدم من الصحابة إنما عدلوا عن ذلك؛ لأنه لم يكن فيما بينهم مخالف وصاحب شبه، أما إنما احتجنا إلى ذلك؛ لظهور الجبر وكثرة التشبيه، وفي أيامه ظهر من غيلان ما ظهر من العدل والتوحيد، فقد كان يدعو إلى الله بقوله ورسائله". وقد استحكمت الفرق في النصف الثاني من القرن الثاني، وكثرت المصنفات والكتب التي ألفها المتكلمون في مسائل كلامية عقدية.

وأخيرا.. لم يكن العنبري مُوفَّقا في تلك العبارة التي ساقها، وفي نظري قالها من غير إسناد يدعمها، ولم يوافق عليها الكثير من المجتهدين الكبار. مسألة الاجتهاد شاقة وكبيرة وتخضع للمعايير؛ منها مثلا: يمكن إعادة النظر في أي مسألة إذا شك فيها أو أن هنالك آراء أخرى تنفيها.

أخبار ذات صلة