مفهوم الحق والفناء من منظور صوفي

سيف الوهيبي

 

لطالما امتازت النزعة الصوفية في ممارساتها لمفاهيم العمق الوجداني بخصائص فريدة ومتنوعة، داعية لتغيّر صفات النفس البشرية بتحليتها بفضائل الأخلاق، مرشدة سالكها للذوبان والتفاعل مع الخطاب الإلهي بكل تجلياته، وللنفاذ إلى الروح وجوهرها، لا بد أن تمر هذه النفس بمراحل ودروب، أولها الحق، معرفته ومحبته، وبمحبته تتوصل النفس للفناء في محبوبها الأعلى، والفناء مرحلة يتلاشى فيها المحب في المحبوب، وفي أحرُفِنا القادمة ندرس سوياً مقالا للكاتب محمد بن الطيب المنشور بمجلة "التفاهم" بعنوان "فكرة الحق والفناء عند المتصوفة".

مراحل الوصول للحق

لا سبيل للولوج لعالم السير والسلوك بغير مجاهدة النفس، فأول خطوات الوصول للحق هي مجاهدة النفس الأمارة بالسوء ومحاولة ترويضها من كل ما تتوق إليه وتشتهيه، لاسيما الأشياء التي اعتادت عليها، وسبيل ذلك كله هو التوبة كما اصطلح متصوفة الإسلام تسميته، بعدها يدخل الإنسان الصوفي إلى عالمه الروحي، الذي يتحكم فيه ويسمى الميلاد الروحي لدى المتصوفة، يصاحب ذلك شوق مُلح نحو الحق، وشعور ديني قوي وفياض، عندها يُتاح للإنسان الصعود لملكوت الله وتتحول نفسه عن صفاتها، وتتخلص من أدرانها، فتَفنى في صفاته وتتحرر من قيودها، فالله أصل كل موجود ومصدره، وهو الحقيقة الوجودية المطلقة.

بعدها تتفرغ النفس للمحبة وهي ثاني مراحل الوصول للحق، وتكون بمحبة الحق وفيها يتذوق الصوفي حلاوة الزهاد الأوائل بالاجتهاد في العبادة، والانتقال بالنفس من عاطفة الخوف من الله إلى محبته، وتتحقق هذه المحبة بالشوق والحنين إليه، والأنس والمناجاة لله وحده، ولذه القرب منه، وألم البعد عنه، فطاعة الله والمواظبة على عبادته هي فرع من المحبة عند المتصوفة، والحب حقيقة لا مجازا، لذا قيل: العبودية محبة الله والمحبة حقيقة العبودية، والصبر والرضا حقيقة المحبين، والزهد في محبة ما سوى الله، والفقر فقر الأرواح إلى محبوبها، فجنة المتصوف القرب من الله ونيل رضاه، وجحيمهم إعراضه وصدهّ. وليتفرغ الصوفية لمحبة الله اختاروا الفناء فيه، والفناء لديهم هو التخلص من الفردية الآنية المقيدة المحدودة، ليتحقق القرب المباشر مع الله سبحانه وتعالى، ويكتسب بها الصوفي شعورا أوسع ومعرفة أعمق ليحسوا بحضرة الله سبحانه وتعالى، ويكثروا من ذكر الحق؛ ليتجلى لهم نوره، فيمحو باطل الأنانية من قلوبهم ويفتح بصائرهم بالخشية من عين الحق، والمحبة هي المحور الذي تدور عليه الحياة الصوفية والهدف الذي تتجه إليه، ومن خلالها نشأت نظرية الحب الإلهي المتولدة من التناهي في العبادة، واعتناق عقيدة الحب الإلهي بين العبد وربه. ولا تتولد هذه المحبة إلا بالمعرفة ومعرفة الحق هي أسمى معرفة وأعلى منزلة للوصول لمحبة الله تعالى، وتسمى لديهم (بالمعرفة الأسمى)، وهنا يتوجه الصوفي لمعرفة الله لا غيره، ويقولون لا تحب من لا تعرف، فالمعرفة تأتي قبل الحب؛ فهي سبيل السالكين لطريق الله، ولا يعرف الله بصفاته وأسمائه فقط،، فمعرفة الله ليست معرفة عقلية تتم بالنظر العقلي، بل بالكشف والعيان لا بالحجة والبرهان وسمى المتصوفة أنفسهم بـ(أصحاب علم المعرفة الذوقية)، وهي المعرفة التي تحصل بالكشف بعد الرياضة الروحية أو المجاهدة بالمعنى الدارج، ويقدمون في فلسفتهم المعرفة على الأيمان، يقول ابن عربي: (لا معنى للتصوف دون معرفة)، ويستشهدون على ذلك بقول الرّسول (صلى الله عليه وسلم): (دعامة كل بيت أساسه، ودعامة الدين المعرفة)، ولتقوية هذه العلاقة بين المحب والمحبوب، اتجه الصوفية لما يسمى بالفناء، فلا سبيل لمعرفة الحق إلا بالفناء فيه.

 

 

الفناء

إن الفناء بمعناه الصوفي هو العالم الإطلاقي الذي يجعل من الذات المتصوفة ترقى لأن تتحلى بفضائل الأخلاق في أعلى مستوياته ليصل بالروح إلى ما يمكن تسميته بالإنسان الكامل، وهي علاقة تنتهي باتصال الذات الإلهية، وفيها يتدرج الفاني من مرتبة الإنسان الحيواني أو الجزئي إلى مرتبة الإنسان الكامل الذي هو الصورة للحقيقة الأزلية، فيما يعرف أبو يزيد طيفور البسطامي الملقب بسلطان العارفين الفناء على أنه الامتداد الطبيعي للحب الإلهي الذي كان امتداداً للتعلق بالحق، بل لقد كان الفناء درجة من درجات الحب الإلهي الأعلى ومرتبة أسمى، فيها يتلاشى الحب في المحبوب، ويعد البسطامي أول من خاض في الفناء، إلا أن بعض المصادر تشير إلى أبي سعيد الخراز، مثلما جاء على سبيل المثال في (كشف المحجوب) للهجويري، ومما لاشك فيه بأن رابعة العدوية كان لها الفضل الأول في ظهور مصطلحات الفناء المنبثقة من تجربتها في الحب الإلهي، وهي من مهدت الطريق لمن جاء بعدها لصياغة الفناء كمصطلح لمحو النفس الإنسانية وآثارها، وصفاتها، واضمحلال رسومها. والفناء الصوفي هو تلاشي شخصية العارف وانعدام شعوره بوجوده، ومقتضاه زوال الحجب المادية التي تفصله عن الله، فإذا زالت هذه الحجب، ودنا من الله، ذهبت إنيته وانتهى إلى الاستغراق في الوحدة الإلهية التي تبدو له في صورة ذات مقدسة، يهيم في جمالها، ويتغنى بكمالها، فإذا نطق لا ينطق إلا بها، وإذا سمع لا يسمع إلا حديثها، ولا يتأمل إلا فيوض أنوراها، إنه فيها وبها، منها وإليها دائماً، يقول أبو مدين الغوث واصفاً الفناء فالحق:

 

الله قُل وذر الوجود وما حــــــوى  ***  إن كنت مرتاداً بلوغ كمال

فالكل دون الله إن حققتـه   ***  عدمٌ على التفصيل والإجمـال

واعلم بأنك والعوالم كلها   ***  لولاه في محوٍ وفي اضمـحلال

وليكون العارف صوفياً خالصاً لابد أن يدرك العلاقات التي توصله للفناء في المحبوب، ويتدرج فيها، فمفاهيم الحق والحب والمعرفة والفناء مترابطة متماسكة، إذا اختل أولها لم يُدرك آخرها، فخروج الصوفي إلى العالم الروحي الذي يتحكم في وعيه المتعالي محكوم بفكرة الحق، فالحق هو أصل كل شيء فمعرفته واجب، فالحق أن تحب من تعرف، وبمحبته تذوب النفس الإنسانية وتتلاشى فتتخلص من أدرانها، لتصل إلى أسمى المنازل العرفانية وهي الفناء، والتي يستشعر فيها الصوفي أنه مع الله فيفنى بنفسه مؤقتا؛ لأنه مستغرق في تجربته الروحية يستشعر فيها أنه مع الله، وعندئذ يغيب عما سوى الله، ولكنه يعود بعد ذلك من حال الفناء إلى حال البقاء فيستشعر وجوده مرة أخرى ووجود العالم، فاستشعاره أنه مع الله وغيبته عما سواه حال كمال وذوق وعرفان.

 

 

 

أخبار ذات صلة