مراحل تطوّر فلسفة الدين عبر التاريخ

أيمن البيماني

شهد العالم خلال الفترة المنصرمة تحوّلات جذرية في القيم والاتجاهات والمفاهيم بعضها لأسباب سياسية وأخرى اجتماعية وغيرها اقتصادية أو ما شابه. وقد رافقت تلك التحوّلات تغيّرات مهمة في الفهم العام للدين بين الشعوب والمجتمعات والأفراد، حتى كاد يخبو أثر الدين نهائياً في بعض المجتمعات وتضاءلت الثقة به لولا حركات الاستنهاض التي قامت بها بعض المؤسسات الدينية لاسيما المسيحية والإسلامية والتي حاولت تجديد الدين من حيث المفهوم العام وأفكاره وقيمه وتجديد الثقة به والقيام بحركات الإصلاح الديني داخل المجتمعات وبين الأفراد. وهذا ما نناقشه اليوم في مقال محمد بو هلال والمنشور في مجلة التفاهم بعنوان: "تفكير الفلاسفة واللاهوتيين في الدين أو فلسفة الدين".

إن تلك الثورة التي قامت بها المؤسسات الدينية كانت السبب الرئيسي في ظهور ما يطلق عليه بفلسفة الدين، وسوف نتحدّث عن فلسفة الدين وتطوّرها عبر فترات مختلفة من التاريخ من خلال العناصر الأربعة التالية:

1. فلسفة الدين عند الفلاسفة القدماء:

إنَّ مما أثار الجدل في فلسفة الفيلسوف الشهير أرسطو هي مسألة الوجود والتصنيف الطبيعي للظواهر، حيث عُرِف هذا العلم عند أرسطو حول مسألة الموجود بعلم (ما وراء الطبيعة) أو الميتافيزيقا. وأثار الفلاسفة والعلماء من بعد أرسطو الجدل والنقاشات حول ما يقصده أرسطو بمفهوم (الميتافيزيقا). فأشارت ثُلّة منهم أمثال دوهيم وجلسن وريكور أنّه نفس العلم الذي تعددت تسمياته عند أرسطو بعلم الثيولوجيا أو الفلسفة الأولى أو فسلفة موجود الموجود. أما هايدغر فأشار إلى أنَّ ميتافيزيقا أرسطو أنتجت ثلاثة علوم عقلية تشترك في مفهوم الجوهر أو جوهر الموجود أو الموجود الأكثر فعلاً وتماماً، وهذه العلوم العقلية هي: الثيولوجيا (الله)، الكوسمولوجيا (الكون)، السيكولوجيا (النفس).

وجاء من بعدهم أوبنك الذي فنّد ودحض فكرة ونظرية أن الميتافيزيقا من إنتاج أرسطو؛ بل قال إنّه لم يكن لها مكان أصلاً في تصنيفاته، واستند إلى أدلّة إسقاط الشرّاح القدامى للميتافيزيقا الأفلاطونية على الميتافيزيقا الأرسطية، وكذلك عدم تطرّق أرسطو إلى الثيودولوجيا في كتابه (ما وراء الطبيعة) إلا في جزء ثانوي من الفصل الثاني من الكتاب.

وشخصياً أرى أن الثيولوجيا (علم الإلهيات) كان محوراً أساسياً في فلسفة أرسطو رغم تفنيد أوبنك للأمر، وذلك لأنّ فلسفة أرسطو كانت قائمة في المقام الأول على فلسفة الدين والخطاب الديني والمواضيع المتعلّقة بالدين والروحانيات والإله والذي يعبّر عنه بمفهوم (الثيولوجيا).

2. فلسفة الدين عند علماء المسلمين:

كانت بدايات فلسفة الدين مع رسالة أبي يوسف الكندي في الفلسفة الأولى (252 هـ) ثم تبعه الفارابي (339 هـ) مع مؤلفه إحصاء العلوم، وتوّجه أشهر فلاسفة الإسلام على الإطلاق وبإشادة العديد من المؤرّخين الفرنسيين والإسلاميين وهو ابن سيناء في كتابه إلهيات الشفاء (428 هـ). ولكن يجب الأخذ في الاعتبار أنّ فلسفة العرب والمسلمين كانت محكومة بالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية آنذاك، ناهيك عن تلوّث الفلسفة الأرسطية وضياع جزء كبير منها بسبب انتقالها من لغة إلى أخرى، ومن ثقافة إلى أخرى، ومن شعب إلى آخر، ففقدت جزءا من معناها الحقيقي فيما يعرف بـ (Language Barrier).

وقد كانت فلسفة ابن سيناء فلسفة ربوبيّة في المقام الأوّل، حيث اعتبر أنّ معرفة الله هي غاية هذا العلم، وأشرف منها مرتبة الربوبيّة، والأقدس منهما الجزء الذي أطلق عليه (الإلهيات)، وهو نفس مصطلح علم (الثيولوجيا) الذي انتهجه أرسطو في فلسفته القديمة.

وجاء ابن رشد مؤكّداً على ابن سيناء في جوهر الفلسفة الإسلامية بأنّ الاهتمام الكبير بالإلوهية والإلهيات ومعرفة الله سببه المكانة المركزية لخالق هذا الكون ومدبّر شؤونه، وجميع الموجود والوجود منه لله سبحانه عز وجل، رغم ذلك أرى من ملاحظتي الشخصية أن ابن رشد قد بالغ كثيراً في الفلسفة مما أفقده المعنى الحقيقي للفسلفة الإسلامية في بعض المواضع، ولكن رغم ذلك لا ننفي إضافته الكبيرة لإسهامات ابن سيناء والكندي والفارابي وغيرهم من علماء المسملين وفلاسفته في مجال فلسفة الدين الإسلامي.

3. فلسفة الدين عند علماء الكلام:

 يتكوّن علم الكلام من مادة الاستدلال وأداته، وقد أطلق المتكلّمون مصطلح (جليل الكلام) على المسائل التي هي أصل اعتقاد المسلم، والذي يثبت تلك المسائل أطلقوا عليه مصطلح (رقيق الكلام)، ويوضّح هذا الزوج الإصطلاحي المرونة والقدرة على التعبير عن تفاضل المسائل الكلامية حسب تعلّقها بالموجود الأسمى وهو الله عز وجل.

وقد ذكر ابن خلدون في مقدّمته الشهيرة كيف أنّ الأشاعرة اهتمّوا في علم الكلام بقضايا النظر والاستدلال، وأوردها إلى المصنّفات الكلامية التي تتحدّث عن الله وصفاته وأفعاله. واتّخذ الأشاعرة كذلك مقولة "المعلوم الموجود" مبدأ للتفكير، والباب الذي دخلوا منه إلى قضايا أساسية ومنها الألوهيّة، حيث أقرّوا سمعاً وبصراً بوجود الله من خلال كلام الرسل وتعاليم الشرع قبل استدلالهم على وجوده عقلاً.

ويذهب بنا هذا المذهب إلى أنّ الأشاعرة ينظرون إلى الموجود من منظور إلهي بحت سمّوه (علم الله)، والذي سمح في النظر بمقاربة الموجود من جهة كونه معلوماً، وقد سوّغ هذا المأخذ في التفكير أن يخلط المتكلّمون بين المسائل الإلهية والطبيعية، ولكنه كذلك ساعد على إظهار تفوّق علم الكلام على الفلسفة من خلال وضع المعلومات فوق الموجودات، والذي أكّده الجرجاني بأنّ المعلوم في علم الكلام يتناول أشرف وأجلّ المعلومات التي هي صفات ذاته تعالى وأفعاله.

4. فلسفة الدين الحديثة:

كان للإكراهات السياسية والاجتماعية وخاصة في القرون الثلاثة الأخيرة الأثر الكبير في فلسفة الدين الحديثة بانفتاح غير مسبوق على موضوع (ما الدين؟)، وبالتالي تعددت اتجاهات التفكير والأسئلة مثل: هل هناك إله واحد أم عدّة آلهة؟ وهل الله قديم أم حديث؟ وهل لأدلّة وجود الله قيمة علمية أو فلسفية حديثة؟ وكيف يمكن أن نربط بين خيريّة الله (محب للخير) وشيوع الشر وانتشاره في العالم؟ وبالتالي فإنّ فلسفة الدين الحديث تتناول هذه القضايا تناولاً مستلهماً من المدارس الفلسفية الحديثة أمثال كانط وهيجل. وهنا أيضاّ نذكر فلسفة الدين الوظائفية حيث تُلِحُّ هذه الفلسفة على تقسيم الدين حسب نتائجه وثماره وآثاره وليس بناءً على قيمته المعرفية والإنسانية، أمّا فلسفة الدين التحليلية فتتمثّل في الفكر الذي يعدّ الدين أساساً للإنسان، وتحليل العقائد الدينية والمفاهيم وفقاً للخطاب الديني الذي يعبّر عنه ويُشير إليه.

 

أخبار ذات صلة