تأسيس الأخلاق على مبدأ الحرية وفق فلسفة إيمانويل كانط

سيف الوهيبي

 

  كان الفلاسفة قبل كانط يفترضون دائماً أن إدراكاتنا المستمرة تناظر بالضرورة خصائص معينة في العالم الخارجي، لكن كانط ثار على تلكم الافتراضات وأثبت عكس ذلك، حيث إن كل الموضوعات الخارجية لابد أن تتطابق مع تكوين أذهاننا؛ فالأفعال البشرية ينبغي أن تستند إلى نسق من القواعد والمبادئ العامة أساسها العقل (العقل الأخلاقي حسب فلسفة كانط) ومحركها الحرية. نناقش هذه الفلسفة في مقال الكاتب عبد الحق المنصف المنشور بمجلة التفاهم بعنوان "الأخلاق والحرية من منظور العقل الغربي الحديث".

 

الحاجة العقلانية إلى الأخلاق

  يميز كانط الإنسان بوصفه كائناً عقلياً طبيعياً يخضع للواجبات الأخلاقية المطلقة والمبادئ التي تستمد شرعيتها من داخل العقل، يقول: (ينبغي أن نقدم الدوافع الأخلاقية في استقلالها ونقائها وتميزها عن كل الدوافع بما في ذلك تلك النابعة من مشاعر العاطفة)، وبعبارة أخرى ليست الحساسية متمثلة كمركب من المشاعر والأحاسيس والميول والأهواء، بل العقل كقوة لتشريع مبادئ المجال العلمي البشري بمختلف تجلياته الأخلاقية والسياسية والثقافية والإبداعية، ومهما بلغ تسامي النماذج الأخلاقية وجاذبيتها، فإن الحداثة بمعناها الفكري والتاريخي تقتضي الاحتكام إلى العقل في تأسيس الأخلاق بشكل يستهدف الإنسان ككائن كوني ذي حقوق وواجبات، فالإنسان بحكم طبيعته الأنانية وميوله وتكوينه الفيزيولوجي يجد نفسه دوماً موزعاً بين قوانين العقل العملية وبين دوافع طبيعته وميوله الظرفية، بل كثيراً ما يجادل العقل ولو داخلياً؛ لأجل تبرير رضوخه لهذه الميول والدوافع، ومن هنا يتولد لديه نوع من الجدل الطبيعي ورغبة دائمة فالتشكيك في صلاحية  قواعد الواجب والتزام الأخلاقيات العامة، بل هو كثيراً ما يحاول تكييفها مع ميوله ورغباته الظرفية وهو ما يعني إفسادها، لذا يجب أن يُزود الإنسان بمذهب فلسفي كامل للأخلاق يستمد نسقه الكلي من العقل، فداخل وحدة هذا النسق يذوب ذلك الجدل الطبيعي وتنحل مختلف المفارقات التي يواجهها الإنسان من خلال ممارساته.

 

الحرية كأساس للأخلاق

  يعتبر كانط الإنسان هو الحيوان الأخلاقي إلا أنه يمتلك الحرية، وهذا ما يجعل الحرية هي القوى العظمى في الحياة البشرية، وهو ما يلزم الإنسان في الوقت ذاته حمل المسؤولية والالتزام بالواجب، ولكن في الوقت الذي فيه جميع الكائنات الأخرى غير حرة ومحكومة بواسطة العوامل والظواهر الخارجية في أمنها وسلامها، كما أيضاً في خطرها، يختلف عنها الإنسان الذي يمكنه أن يقبع الخطر في ذاته! ويمكن أن يكون الخطر نتيجة لحريته ولإرادته في اختياره للأفعال الأخلاقية، فالعقل حينما يحدد مبادئ الفعل وقواعده ومفاهيمه يكون هو القوة المشرعة لمبادئ معقولية ما يعتبر أخلاقياً في حياة البشر كالقانون الأخلاقي، والواجب وما إلى ذلك، أما حين يحدد العقل ذاته مبادئ الفعل وقواعده وغاياته، فيكون هو القوة المشرعة للفعل ولا يمكن للعقل – كما يتصور كانط – أن يكون قوة مشرعة في حياة البشر ما لم يكن هنالك حرية أي إرادة تشرع من تلقاء ذاتها قوانين الأفعال التي توصف بالعملية.

الحرية والمجال العلمي البشري

  لا يمكن استمداد مفهوم الحرية كأساس لتصور المجال العلمي البشري والأخلاقي والسياسي والتقني من خلال العقل وما يقيمه من تمثلات حول العالم والطبيعة، بل ينبغي أن يغير هذا العقل زاوية نظره (مفهوم الثورة الكوبرنيكية عند كانط) ويتمثل ذاته كإرادة مشرعة لمبادئ الفعل الأخلاقي والسياسي والإبداعي حتى يصبح عقلاً أخلاقياً أو سياسياً أو إبداعياً، هنا بالذات يسهل تصور مفهوم الحرية كأساس للمجال العلمي البشري، حيث لا يمكن للعقل أن يكون مشرعاً أخلاقياً إلا بوصفه حرية، والعقل بوصفه حرية مشرعة للقوانين والمبادئ هو العقل الأخلاقي الحر، فمؤسسات إنتاج المعرفة كالمدارس والجامعات والمعاهد وغيرها هي تجسيد مؤسسي وتاريخي للعقل المشرع لمبادئ المعرفة، كما أن المؤسسات السياسية والقانون بما في ذلك الدولة والقوانين بكاملها، تجسيد للعقل المشرع لمبادئ الحياة السياسية ومفاهيمها ومسلكياتها العامة، وبالمثل تكون المبادئ والأفعال، والمؤسسات الأخلاقية تجسيد للعقل الأخلاقي في حياة البشر، والحقيقة أن كانط كان ملزماً بافتراض وجود ذوات حرة مستقلة الإرادة عن الدوافع والقوانين، فلا يمكن أن نتصور الذوات خاضعة لقوانين عملية ما، إلا للأننا نسلم عقلاً أنها مزودة مسبقاً بإرادة مستقلة في ذاتها وفق مفهوم متعال عن الحرية، يفسر ذلك كانط بقوله: (يطابق كل من الحرية والتشريع الخاص بالإرادة مفهوم الاستقلال الذاتي، فهي مفاهيم يحيل بعضها على البعض الآخر).

 

من الحرية إلى أخلاق الالتزام والاستقلال الذاتي

   يرى كانط أن اكتمال الشخص الإنساني يقتضي في أن يجعل كل فرد غايات الآخرين غاياته الشخصية أيضاً، وهذا يعني أن يعمل على تحقيق السعادة أو المساهمة في تحقيقها في سبيل الآخر، وهو ما يستلزم السمو بالغايات الذاتية التي يسعى إليها كل فرد على مستوى الكونية، وذاك هو مضمون الواجب الأخلاقي (يجب أن أعمل على أن تكون الغايات العملية هي ذاتها غايات كل شخص إنساني باعتباره ينتمي لدائرة الكائنات العاقلة)، وتقتضي هذه الدائرة أن يكون كل إنسان بمثابة غاية ينبغي أن تتمحور حولها كل الغايات، وعلى الرغم من أن كل أشياء الطبيعة ترتبط بالطبيعة ذاتها لا بإرادتنا، فإنها ستكون مجرد وسيلة لهذه الإرادة.

   فيما يربط الفيلسوف الألماني إمكانية الإصلاح الكوني لقواعد السلوك الذاتي لدى الفرد بقصر الإرادة الخالصة. على هذا الأساس يأمر العقل الخالص الإنسان بالسلوك بشكل تكون فيه القاعدة الموجهة لإرادته صالحة كقانون كوني لكل كائن عاقل فقط، بل سيأمره فوق ذلك بأن يسلك وفق قاعدة ذاتية يريد بقصده أو عزمه الداخلي أن تصبح في الوقت نفسه قانوناً أخلاقياً كونياً ينطبق على كل شخص كيفما كانت هويته أو إثنيته أو انتماؤه الاجتماعي أو السياسي، فمبدأ التوافق والتطابق بين القاعدة الذاتية للسلوك والقانون الكوني هو القصدية الداخلية للإرادة، يعبر كانط عن ذلك بقوله: (يجب على الإنسان أن يسلك القاعدة التي تصلح في أن تكون قانوناً كونياً)، وعليه لم يكن القانون الأخلاقي رغم قطيعته كافياً؛ بل لا بد من أن تريده كل إرادة وأن تتمثله وتتقبله وتحوله إلى قاعدة ذاتية الفعل. 

 

 

 

 

أخبار ذات صلة