العالم وصراع الأصوليات الدينية

سيف الوهيبي

 

 الأصولية في اللغة مُشتقة من كلمة أصول، وأصل الشيء أساسه الذي يقوم عليه، أو صورته الأولية وجوهره النقي عندما بُرئ وأُبدع، وفي الفقه الإسلامي تأسس علم أصول الفقه مُبكراً؛ لكي يُحافظ على أصل الفقه وجذوره، ومثله حدث في أغلب الديانات وإن اختلفت الظروف والأزمان؛ إذن لماذا للأصوليين تلك الصورة السلبية؟ كما هو مصور في الفكر الاجتماعي المعاصر وفي الأدبيات الدينية والسياسية، رغم أنهم الأصل والأصل هو المرجع! ولماذا تتسم الأصوليات الدينية اليوم بشتى توجهاتها بالعنف، والمواجهات العقائدية الحادة؟ وهل الأصولية اليوم لا تقبل بالتعددية؛ لأنها الحق المطلق؟ نناقش ذلك في مقال الكاتب إميل أمين المنشور بمجلة التفاهم بعنوان "الأديان والأصوليات، في جذور المفاهيم وتحديات الواقع الأليم".

 

العالم في مجابهة الأصوليات الدينية

 يشهد العالم اليوم نمواً مضطرداً في الأفكار الأصولية المتطرفة والجماعات الدينية المنغلقة، التي ترفض الآخر المختلف عنها، مدعية امتلاك "الحقيقة المطلقة"، وينتشر الأصوليون في معظم الديانات، إن لم يكن كلها، وقد تجاوز العالم اليوم مسألة الأديان الإبراهيمية الثلاثة أو المذاهب الناشئة عنها إلى أفكار وجماعات أخرى، حيث يمثل نحو نصف سكان العالم جماعات مختلفة، مثل: البوذيين والماويين والسيخ والهندوس، ناهيك عن الجماعات الأقلية التي تتوشح برداء الدين بغية تنفيذ مخطط سياسي أو أفكار ناتجة عن هوس ديني متطرف. وتكمن مشكلة الأصولية المنغلقة في نفي الآخر وعدم الاعتراف به كإنسان يحق له اختيار هويته وأفكاره، مما يحتِم عليه التكفير والحكم عليه بالدنيوية الأبدية ما لم يرتد عن كفره، هذه العقلية الأصولية المنعزلة تشجع على الإتيان بسلوكيات مدمرة، ينتشر خلالها التعصب والنعرات؛ التي تؤدي إلى استمرار الحروب والإبادة العنصرية دون أي احترام لمشاعر الآخر، ويستند الأصوليون على النصوص المقدسة بعد تحريفها تنفيذاً لمخططات معينة بعيدة كل البعد عن روح الدين، غالباً ما تمثل معتقدات محورية مثيلة وحكايات تتكرر في الكثير من الديانات، تدفع قوي الإيمان الوهمي إلى التطرف، معتقداً بذلك أنه يتفانى من أجل رسالته، وقد يضحي بحياته من أجلها.

 

العيش المشترك ونبذ الأصولية

 لعل أفضل من يُعطينا رؤية واضحة حول قضية التعايش السلمي بين أتباع الديانات الإبراهيمية، ويطوي غشاوة الصورة السلبية المترسخة في الأذهان من صراعات وحروب هو المؤرخ الأمريكي الشهير زاكاري كارابل في كتابه "التاريخ المنسي... لعلاقة الإسلام بالغرب" وهو نداء من عمق التاريخ يوضح طبيعة الخلاف المستمر بين المسلمين والمسيحيين واليهود، الذين وإن تقاتلوا يومًا ضد بعضهم البعض، إلا أن العلاقة لم تكن دوماً علاقة عداء، إذ شهدت فترات من التعاون والازدهار على مدى القرون الأربعة عشر الماضية، ويعد هذا الكتاب دعوة إلى استرجاع التاريخ المنسي، حيث يعد أمرا ضروريا للوصول إلى عالم ينعم بالأمن والاستقرار، وإذا كان للقصص أن تقول شيئًا فهو أن هناك وجهة نظر مختلفة، حيث كان هناك تعاون فعَّال عبر التاريخ وكان هناك تسامح، كما كانت هناك فترة عدم اكتراث، والطريقة الوحيدة لوصف مسيرة أربعمائة سنة من الصراع هي أن ننسى ونتجاهل تلك القصص السلبية؛ إلا أن أحداً لم يُفكر بأنها تستحق التدوين، والمشكلة لا تكمن في رؤيتنا للماضي فلو نظرنا لأجيال القرن العشرين والعقود الأولى من القرن الحادي والعشرين، سنتفاجأ بالكم غير المتسق من المعلومات، وما لم نحاول إيجاد قصص أخرى فسوف تنطبع في أذاهنهم أن هذه السنوات أشد مما فات وستزداد حدة الرغبة للانتقام، وكل هذا بسبب رغبة كل فريق بتصوير الماضي بأنه سلسلة من المهانات التي عانى منها على أيدي الفريقين الآخرين. إن المسلمين والمسيحيين واليهود متلاحمون لكن تاريخهم متنوع، كما هي قصة العرق الإنساني، إنه لا يتجه باتجاه واحد أو في كل الاتجاهات، لكن هل من لقاء يجمعهم دون حوار؟!

 

الحوار واكتشاف المشترك بين الأديان الثلاثة

 الحوار فرصة لتعزيز القيم الإنسانية التي من المفروض أن تحترمها كل الأديان، وتبدأ مسيرة الحوار الديني بتعزيز الحوار بين الفرقاء المعتدلين في كل دين، هؤلاء الذين لا يأخذون بالفكر الأصولي وسلبياته ويؤمنون بالتعددية والحريات العامة وحقوق الإنسان، ويجب ألا يتوقف الحوار على المتحاورين من الطبقة المثقفة فقط، بل يجب أن يمتد إلى العامة ضمن خطوات مدروسة، من ثم ينتقل للأصوليين الذين سيجدون أن الدائرة بدأت تضيق عليهم، وأن التابعين قد استعدوا لرحلة التغيير، وأن عملية التدافع الفكري بدأت بالدوران باتجاههم، وإذا ما بدأت العقد النفسية تنفك لدى الأصوليين عاد الإنسان منهم إلى فطرته الصافية السليمة التي تقبل الحق وتستجيب له، وتتوسع دائرة الحوار أكثر لتشمل الحوار بين الأديان، بغرض تثقيف الناس، والتعرف على بعضهم البعض أكثر، وللتعبير عن حاجة بعضهم لبعض؛ من أجل إرساء حياة مستقرة في الجماعة، فممارسة الحوار دليل سعي للسلام، ويبلغ بنا الحوار إلى معرفة وتعارف، وهما وحدهما يوصلان إلى اتفاق على صيغة الأساس الذي ترتكز عليه علاقات المحبة، والتعارف والاعتدال، ونقطة انطلاق لبناء عيش مشترك.

 

خاتمة

 تبدأ الأصولية برغبة مخلصة في العودة لنقاوة الدين وأصله، وإرادة إيمانية بتوجيه الناس للدين الحق الذي بدأ الناس بالابتعاد والحياد عنه، إلا أن هذه الرغبة سرعان ما تتحول إلى رغبة في احتكار الحقيقة واستبعاد للآخر المختلف عنها وتكفيره، مما يهدد بمواجهة عقائدية فتاكة، حيث الآخر المختلف - الإنسان صاحب التوجهات والأفكار والهوية – فالأصولي هو الحقيقة المطلقة بحد تفكيره والآخر كافر، منها تبدأ المجابهات التي تتخذ من العنف اللفظي والجسدي سبيلا لانتصار الرأي، وتكمن المشكلة في الرأي الأصولي أنه يعتبر نفسه صاحب الحقيقة المطلقة، أما الآخر فهو مساحة تبشيرية تنتظر الإصلاح. الآن الأمة وبحسب بعض الجماعات الأصولية، إنما هي جماعة يجب أن تلتف حول العقيدة والإيمان، وأن الآخرين المختلفين هم عناصر لا ضرورة لها، أي أن التعددية مرفوضة وغير مقبولة، تُبعد عن دائرة أهل التدين الحق، وتُمنع حتى الشراكة معها في المأكل والمشرب؛ لذا فقد بات من الضروري الوقوف أمام هذه التحديات التي من شأنها أن تُرجع العالم ألف خطوة للوراء، لتجد أن الأصوليات والقوميات والعرقيات باتت تشُغل العالم الحديث، ولكن بأسلحة أكثر فتكاً وأشد تنكيلا.

 

    

أخبار ذات صلة