الدستورية في التجربة الإسلامية

جميلة علي السعيدية

تحت عنوان "أزمة الشرعية في التجربة التاريخية الإسلامية"، جاء مقال صلاح الدين الجورشي -والمنشور بمجلة "التفاهم"- مُناقِشا التجربة السياسية الإسلامية؛ استعرض خلاله أهمَّ المنعطفات التاريخية التي مرت بها هذه التجربة، بدءًا من النظام الجاهلي القائم قبل البعثة والمتغيرات الضخمة التي أدخلتها رسالة الإسلام عليه، مرورا بما حملته فترات حكم الخلفاء، وما تمخَّضت عنه من إشكاليات في بناء شرعية ومشروعية الحكم والسلطة.

يستهلُّ الكاتب مقاله بالإشارة إلى أنَّ "الشرعية والمشروعية" من القضايا المهمة لأي كيان سياسي؛ إذ لا يُمكن لأي دولة أن تستقر إلا عندما يخضع الناس فيها اضطرارا أو اختيارا لقواعد معلنة أو ضمنية توفِّر الانتظام المجتمعي، وتجعل الجميع أو الغالبية من الناس يَقبلون بآليات من شأنها أن تحمي التعايش بين الأفراد والجماعات داخل المجتمع الواحد.

 

ومُنذ الوهلة الأولى التي تحمل فيها الرسول الرسالة وجد نفسه قبالة مجتمع قائم تحكمه آليات ضمنية، لكنها متعارف عليها، وفَّرت له نمطا من التوافق الاجتماعي والاقتصادي والثقافي؛ إذ كان مجتمع الجزيرة العربية بدويًّا في غالبه وقبليا بامتياز؛ حيث شكَّلت القبائل وحدته المركزية، وكانتْ كل قبيلة محكومة بذاتها وفق منظومة اجتماعية وقيمية واقتصادية داخلية، وعليه يُمكن الحديث عن مجموعة من العوامل أسهمت في تشكل نوع من الشرعية في "المجتمع الجاهلي"؛ أهمها: "العصبية القبلية" التي عدها الكاتب نقطة الارتكاز لذلك النظام وجوهره. إضافة للعامل الاقتصادي ونمط الإنتاج السائد آنذاك، كان للعامل الثقافي بكل مفرزاته دور في صياغة النمط المجتمعي وقيام سلطة معنوية وذاتية لذلك النظام.

أما الآن، وقد بعث الرسول محمد، وكان هذا حال المجتمع القائم حينها، فإنَّ بعثته حملت الكثير من الأسئلة: فما الهدف من رسالته؟ وكيف جرت وتشكلت شرعية نظام المجتمع الجديد؟ وما أهم العناصر والمتغيرات التي أدخلتها الرسالة على هذا المجتمع؟

فبالعودة إلى المقال، يرى الكاتب أنَّ الهدف من رسالة الإسلام لم يكن تنظيم وهيكلة المجتمع العربي فحسب، وإنما كان هدفها الأبعد هو تهيئة هذا المجتمع ليلعب دورا فاعلا في عملية تغيير مسار الإنسانية برمتها. ما حدث فعلا حينها هو أنَّ المجتمع الجاهلي لم يعِ هذا الهدف بسهولة ويُسر، ظانين أنَّ مشكلة الرسول كانت فقط مع الأصنام التي كانوا يعبدونها إلى أن تبين لهم أن صاحبهم كان يهدف إلى تحريرهم من الوهم والخرافة وإدخالهم إلى حلبة التاريخ.

وفي تلك المرحلة الانتقالية "الحساسة" لم يحارب الرسول القبيلة، وإنما قام بتفكيك البنية القديمة، وسعى لتوظيف عناصر القوة فيها ليتمكن من بناء منظومة جديدة للمجتمع الناشئ. وبشكل عام فإنَّ أهم العناصر والمتغيرات التي أدخلتها رسالة الإسلام على المعادلة العربية المحدودة التي كانت سائدة إلى حدود الربع الأول من القرن السادس الميلادي؛ تمثلت في: القضاء على الخرافة، ورفع الغطاء عمَّن كانوا يتسترون بعبادة الأصنام لإضفاء الشرعية على سلطة سياسية ومالية موزعة على العائلات الكبرى المستفيدة من ذلك النمط المجتمعي المهيمن، وهو ما تم فعلا؛ حيث سقطت الأصنام، وسقطت معها الشرعية القديمة. كما عمدتْ الرسالة الجديدة إلى ترسيخ عقيدة التوحيد ليصبح الولاء له سابقًا للولاء للقبيلة، والدافع الرئيس لصناعة التاريخ رغم أنَّ القبيلة وتأثيرها لم يختفيا، وإنما لم تعد هي الحاضنة الوحيدة للتنظيم الاجتماعي والسياسي. ويضيف الكاتب أنَّ انقلابا مهما حدث في المجتمع العربي آنذاك؛ إذ بايعت جميع القبائل العربية النبي لأهداف مختلفة، بعد أن مال الميزان العسكري لصالحه؛ فتحولت القيادة من شيخ القبيلة إلى صاحب النبوة. وبفضل هذا التغير الجذري الذي حصل، تغير المشهد كليًّا في الجزيرة العربية، وتوفرت الشروط الملائمة لقيام دولة جديدة؛ إذ توفرت القيادة والأرض وما تبعهما من بناء جيش شعبي، كما لعبت الأفكار الجديدة دورا مهما في إعادة صياغة شخصية الأفراد والجماعة. في ظل هذه المتغيرات، لم يعد الانتماء للقبيلة هو الأصل، إنما أصبح الانتماء إلى الأمة هو المرجع الذي يستند إليه كل عضو في المجتمع الناشئ.

التَحَق نبيُّ الإسلام بالرفيق الأعلى بعد تغييرات ضخمة أدخلتها رسالته على المجتمع العربي في الجزيرة العربية. بوادر شرخ بدأت تلوح في الأفق؛ إذ بالرغم من أنه ترك وراءه نواة أولى لسلطة سياسية، إلا أنه لم يحدد آليات واضحة لتداول الحكم. فكيف سارت الأمور في أول اختبار يمر به المجتمع الإسلامي؟ وكيف تم حسم مسألة الشرعية وتداول السلطة في عهد خلفائه الراشدين؟

ربما يحمل لنا اجتماع سقيفة بني ساعدة في يثرب؛ حيث الأنصار من قبيلتيْ الأوس والخزرج الذين احتضنوا الرسول في محنته الكبرى بعد أن غادر مكة سرًّا، أجوبة على ما تقدم؛ إذ حسم عمر بن الخطاب الأمر بمبايعة أبي بكر بالقول: "أنت سيدنا وأحبنا إلى رسول الله"، بعد أن رشحه أبو بكر في صيغة لتداول السلطة مع الأنصار: "نحن الأمراء وأنتم الوزراء"؛ ردًّا على صيغة طرحها الأنصار تقضِي بأن يكون منهم أمير ومن قريش أمير. ولولا اعتبارات دينية وأخلاقية لأدَّت تلك البيعة إلى حرب أهلية. إذن، لم يكن العامل القبلي وحده الذي تدخل ليحسم مسألة الشرعية، إنما أسهم العامل الديني في حسم هذا الخلاف ولجم الصراع على السلطة.

تميَّزت فترة حكم أبي بكر وعمر بن الخطاب بالاستقرار السياسي بعد إخماد الثورة المضادة أو "حروب الردة"، كما تغيَّرت الخارطة الجيوسياسية فتوسَّعت المساحة الجغرافية للدولة الناشئة بعد فتوحات بلاد الشام والعراق ومصر، وتفكك الدولة الفارسية، ترتب عليها ثروات ضخمة خلقت معها فئات اجتماعية وسياسة جديدة. وعلى إثر تلك الفتوحات والثروات، اندلعت سلسلة من التوترات الاجتماعية فتحت الباب أمام اختراق الدولة وتغذية الفتن؛ نجم عنها أول اغتيال سياسي في الدولة الإسلامية.

بعد إصابته القاتلة، عمد عمر بن الخطاب إلى إدخال عنصر جديد لضمان الشرعية وهو تزكية أفراد المجتمع للحاكم الجديد، تلك الشرعية وإن بقيت منقوصة ومشروطة بحصرها منذ البداية في ستة مرشحين، إلا أنَّ الناس قبلوا برأيه، وتمَّ استقراء الآراء بيتا بيتا. وعلى الرغم من ذلك القبول، فإنَّ انتماء الستة القبلي وإبرازهم بتلك الطريقة كمرشحين للحكم شكل فتيلا لبداية صراع حاد على السلطة انفجر وتصاعد بشكل كبير في عهد عثمان بن عفان أدى لمقتله في بيته، بعد أن تمسك بالسلطة خوفا من أن يؤدي انسحابه إلى فتنة لا تُبقِي ولا تذر. في ظل هذه الأوضاع غير المستقرة، تسلَّم علي بن أبي طالب السلطة، ووجد نفسه خلالها يخوض مُجبرًا سلسلة من الحروب كمعركة الجمل وحربه ضد أنصاره الذين رفضوا التحكيم إلى أن انهار معسكره برمته بعد أن نجح معاوية بن أبي سفيان في توظيف الدهاء والمال والعامل القبلي في تحويل الخلافة إلى ملك عضوض. وعلى الرغم من محاولة الحسين الدفاع عن الشرعية الدينية، إلا أن النتيجة كانت أن قدم رأسه فداء لموقفه هذا، فكانت معركة كربلاء بمثابة الإعلان النهائي كما يرى الكاتب عن نهاية الشرعية الدينية والشرعية الشعبية القائمة على حرية الاختيار وبدء مرحلة السلطة الغاشمة المستندة إلى قوة المال والجند والولاء القبلي. ويُضيف الكاتب أنَّ "فشل" الصحابة في تأمين مبدأ للتداول السلمي للسلطة فتح المجال أمام حقبة طويلة من البغي،          هيمنت على تاريخ المنطقة دون انقطاع أو استثناء. ويختم بالإشارة إلى ضرورة تقييم التجربة السياسية الإسلامية بكثير من الجرأة والوضوح والحاجة لفقه سياسي معاصر.

أخبار ذات صلة