القاهرة الفاطمية

جميلة علي السعيدية

جولة تاريخية في القاهرة الفاطمية يأخذنا فيها الكاتب الدكتور محمد فوزي رحيل بعنوان "القاهرة في عيون ناصر خسرو" وهو مقال أشبه ما يكون بمذكرات يومية عاشها ناصر خسرو في القاهرة التي زارها في أوج عزها قبل أنتدهمها الشدة المستنصرية، حيث كانت مصر في ذلك الوقت لها المكانة الأولى في العالم الإسلامي، سبقت فيه بذلك العراق مقر الخلافة العباسية.

محطات عديدة وعوالم مميزة من تاريخ القاهرة وجمالياتها ينقلها الكاتب بعيون ناصر خسرو(439-442) إبان فترة الحكم الفاطمي لمصر.

تعددت الروايات حول المؤسس الحقيقي للقاهرة وتسميتها بهذا الاسم ففي رواية ناصر خسرو أنّ الذي بنى القاهرة هو المعز لدين الله الفاطمي، حيث اختار موقع المدينة بنفسه شمال مدينة مصر أو الفسطاط، إلا أنّ رواية ناصر قد تكون منقولة عن السماع دون تدقيق؛ فالمعز الفاطمي أمر ببناء القاهرة لكنه لم يكن حاضرا لهذا البناء،فلم يأت مصر إلا بعد أن استقرت أحوالها واستقامت الأمور لحكم الفاطميين، كما أنّه لام قائد الجيش الفاطمي جوهر الصقلي الذي تحمل عبء الفتح وتنظيم أمور البلاد قائلا له: "فاتك بناء القاهرة على النيل عند المقس،فهلا بنيتها على الجرف" والجرف هي منطقة تشرف على النيل والجبل وبركة الحبش، وتجمع بين السهل والجبل والخضرة والماء، ما يعني أنّجوهر هو من اختار موقع القاهرة وأشرف على بنائها.وأمّا أصل تسمية القاهرة فاختلفت الروايات حولها،منها ما ذكر أنّه جاء من الطالع الذي بدأ فيه بناء المدينة وهو المريخ أو القاهر، ومنها أنّ القاهرة سميت بذلك لأنها تقهر من شذ عنها ورام مخالفة أميرها. وذكر القلقشندى أنّ اسم القاهرة أخذ من قول المعز لجوهر حين ودعه قائدا لفتح مصر "لتدخلن خرابات ابن طولون وتبني مدينة "تقهر" الدنيا".

قصر الخليفة الفاطمي أبرز معالم القاهرة وأضخمها إذ كان يقع في وسط القاهرة إلا أنّ من كان يراه من ظاهر المدينة يظنه جبلا لضخامته وما به من منشآت وكان شديد الاتساع لا تتصل به أبنية،يتولى حراسته ألف رجل منهم خمسمائةيدورون حوله حتى الصباح ومن كان داخل المدينة لا يرى شيئا بسبب ارتفاع أسواره.ويذكر ناصر خسرو أن داخل القصر اثني عشر بناء وعشرة أبواب فوق الأرضوأخرى غير ظاهرة تحت الأرض.وكان للقصر باب سري تحت الأرض يركب فيه الخليفة ويسير حتى يصل إلى قصر آخر خارج القاهرة. وقد بني القصر من الحجر المنحوت وداخله مناظر وإيونات ودهليز به دكك.

وينقل الكاتب بعيون ناصر خسرو وصفا لأبواب القاهرة وحواريها ومنازلها فيذكر أنّ للقاهرة خمسة أبواب هي: باب النصر،وباب الفتوح،وباب القنطرة،وباب زويلة،وباب الخليج. وهذه الأبواب هي أبواب القاهرة التي بناها جوهر،والتي أحيطت بسور من اللبِّن وليس من الحجر إذ لم يبن سور الحجر إلا في عهد بدر الجمالي ثم صلاح الدين، كما كان للمدينة قصور ضخمة تتكون من خمسة أو ستة طوابق يقال لها القصور الزاهرة. إضافة إلى عدد من المباني الإدارية كدار الوزارة ودار الضيافة ودار الضرب. وعن حواري القاهرة ومحلاتها تحدث ناصر عن عشر من الحواري أو المحلات وهي حارات برجان وزويلة والجودرية والأمراء والديالمة والروم والباطلية وقصر الشوق وعبيد الشراء والمصامدة،ولكل حارة علة في التسمية. وبالحديث عن حواري القاهرة ومحلاتها لم ينس ناصرأيضا أن يلتفت لجمال العيش في منازلها وحسن نظامها بعدما سكن إحداهافيصفها أنها كانت نظيفة وجميلة وحسنة التهوية بديعة المنظر،كأن المرء حين ينظر إليها يظنها بنيت من الجواهر لا من الجص والآجر،وقد حرص ملاكها على عدم مضايقة بعضهم بعضا حتى منعوا فروع أشجارهم من الوصول للجار.ونظرًا لبعد القاهرة عن النيل فقد كان السقاءون يقومون بنقل الماء من النيل إلى القاهرة أو من الآبار القريبة من النيل التي اتصفت بعذوبة مائها عن طريق الجمال التي خصص اثنان وخمسونألف منها لهذه المهمة أو عن طريق ظهورهم للحارات الضيقة إلاأنّ الملاحظ أنه لم يكن مسموح للسقاءينبالإقامة في المدينة كونها مدينة ملكية. وعن اهتمام الخلافة الفاطمية باحتياجات سكان القاهرة من المرافق والأسواق فقد كان بالقاهرة ما يزيد عن عشرين ألف دكان جميعها ملك للخليفة الفاطمي، يقوم التجار بتأجيرها من ديوان الخليفة،كما كان بالقاهرة حمامات وأربطة ومنازل للإيجار وكلها ملك الخليفة يؤجرها للناس حسب رغبتهم دون إجبار.

كما واهتم الفاطميون بالأمن في القاهرة حتى يروي خسرو أن أصحاب المحال التجارية والصيارفة والصاغة لم يكونوا يغلقون أبواب محلاتهم بل يسدلون عليها ستورا لا أكثر، إشارة إلى كفاية جهاز الشرطة الفاطمي الذي تولى أعمال الأمن وتنفيذ القضاء.وحرصا على نزاهة القضاء فقد خصص للقضاة رواتب حسب منازلهم حتى يتعففوا عن أموال الناس،كما استحدثوا وظيفة قاضي القضاة منذ عهد الخليفة العزيز بالله.

ومما يعكس ذوق وحس الخلفاء الفاطميينواهتمامهم بجمال الطبيعة والتنزه والترويح، يشير ناصر إلى أنه كان داخل القاهرة بساتينوأشجار وداخل قصر الخليفة أيضا وقد نصبت السواقي لريها كما أنشئت فوق القصور متنزهات غرست بها الأشجار من كل نوع.وكان للخليفة حديقة خاصة في شمال القاهرة تسمى حديقة عين شمس وفيها شجرة البلسان المميزة والوحيدة في العالم إذ لا ينبت حبها في مكان آخر وإذا نبت لا يخرج منه الزيت.وفي هذه المنطقة أيضا بقايا مدينة أونوعاصمة الفراعنة لفترة طويلة ومركز العلم والثقافة.

وعن احتفالات القاهرة وطقوسها وموائدها يحدثنا ناصرخسروعن عيد ركوب فتح الخليج وهو خليج القاهرة الذي كان يقع في الغرب منها،يصفه بأنه ترعة كبيرة على شاطئيها ثلاثمائة قرية،يبدأ من النيل قبالة الفسطاط ويسير مارا بالقاهرة، وبني عليه قصران؛ قصر اللؤلوة وقصر الجوهرة.كان عيد ركوب فتح الخليج يجرى في شهر أغسطس من كل عام حين يتم وفاء النيل حيث يقام حفل مهيب يخرج فيه الخليفةبنفسه لفتح الخليج إيذانا بفتح جميع الخلجان في شتى أنحاء مصر ويشهده عامة الناس مستبشرين بحصاد وافر يعم فيه الخيرعلى الجميع.هذا الاحتفال الأسطوري وإن كان ظاهره احتفالا بوفاء النيل إلا أنه لم يكن يخلو من رسائل للعامة عن هيبة وقوة وغنى الدولة الفاطمية؛الأمر الذي يضمن لها استقرارا أمنيا وقربا من الرعية.ومما تتقرب به الدولة أيضا من الرعية موائد الخليفة الفاطمي في عيدي الفطر والأضحى،وهي موائد فاخرة كان يسمح للجميع بحضورها.كما احتفل الفاطميون بالأعياد القومية وأعياد أهل الذمة وفي كل الأعياد يكثرون من الصدقات وتوزيع الأطعمةوالكسوات.

هنا يصل بنا الكاتب إلى ختام هذه الجولة التاريخية في القاهرة الفاطمية نقلا عن ناصر خسرو، حيث من الملاحظ أنه كان مفتونا بها أيما افتتان حتى أنه لم يذكر عنها أي نقيصة،وتأثر بمذهبها وأصبح من دعاته فيما بعد،ومن وجهة نظر شخصية فإنّ تحويل قطعة من الصحراء إلى حاضرة كالقاهرة عمل ليس بالهينولكنه لم يكن بالمستحيل، أمر يعطينا تجربة حية وزاهرة لاستثمار مناطقنا الصحراوية وزرع الحياة فيها على غرار القاهرة.

أخبار ذات صلة