صوت الآخر في فلسفة إيمانويل ليفيناس

سيف الوهيبي

 

بعكس السائد في عصره أسس الفيلسوف الفرنسي ميل إيمانويل ليفيناس، فلسفة العلاقة بين الكينونة والآخر، في حين كان الغرب يبحر في تيارات مثل البنيوية، والفيلولوجيا، والماركسية وغيرها، والتي ترتكز على مبدأ الذات دون غيرها، لذلك ظل فكر ليفيناس مغمورا ومهمشا، مقابل تلك الشهرة التي نالها جمع الفلاسفة في عصره، إلا أن أفكار ليفيناس تنعم اليوم باعتراف أكاديمي وعالمي يمتد إلى ما هو أبعد حتى من الأدوار الفلسفية، ليلامس ميادين مختلفة مثل السياسة والتأويل والأخلاق. "فيلسوف الغيرية"، مثلما يلقب اليوم في الوسط الأكاديمي، نناقشه في مقالة للكاتب الجزائري محمد بكاي المنشورة بمجلة التفاهم تحت عنوان "أخلاقيات التعامل مع الآخر، تأملات في فلسفة الغيرية عند إيمانويل ليفيناس".

 

أخلاقيات التعامل مع الآخر

يعتبر ليفيناس الاعتراف بالآخر الشرط الأساسي لقيام علاقة أخلاقية معه، بل إنها تسبق علاقته الانطولوجية بالذات والعالم، وأن الهوية الجديدة للذات، تسبقها هوية الذات الأخرى، هذه الفلسفة الأخلاقية لدى ليفيناس المحتفية بالغير، جاءت كرد أخلاقي فلسفي حاسم، لتُعلي من شأن الغير في الفكر الغربي المعاصر، منطلقة من الأخلاق وهي المبدأ الأول في فلسفة ليفيناس. يقول في كتابه (الكلية واللامتناهي): "الأخلاق ليست فرعاً من الفلسفة، وإنما هي الفلسفة الأولى". إن إيتقيا (الغيرية) ليفيناس هي سبيل مغاير لا يمجد الأحادية بقدر ما يقف ضدها، وهي تمادٍ على المركزيات بإثارتها لعلاقتنا مع الآخر، باستحقاقها للدرس والفحص، بأصالتها إلى جانب الذات. ليفيناس أقحم فلسفته برؤى جديدة تدور محاورها حول التسامح والمحبة والاعتراف بالغير الغريب عنا، يكتب: "الموجود هو الغير، والفلسفة هي طريق الغير إلى الله"، وقد أعادت الفلسفة الليفانسية الاعتبار والأهمية المغيبة لكثير من المواضيع ذات الصبغة الأخلاقية، والبعد الإنساني مثل: الصداقة، والمحبة، والعطاء، والتكفير عن الأخطاء والغفران، وغيرها، لقد انتقل ليفيناس من علم الوجود إلى فلسفة الأخلاق، ومن الذات والوجود إلى الغير، من النرجسية والأنانية إلى المجتمعية.

 

إيتقيا المسؤولية نحو الآخر

في لحظة اللقاء مع الآخر الغريب عني، البعيد عني، الذي ليس أنا، في لقائنا وجهاً لوجه، في مناداته لي واقترابه مني، تتجلى الأخلاق الإنسانية في مراعاة مسؤولية الذات تجاه الغير، فالآخر وجه الوجه، لا هو بالظاهرة الغريبة، ولا بالظاهرة المضادة، يقول ليفيناس في هذا الاطار: "يفرض الوجه ذاته علي، فلا أستطيع أن أمتنع عن سماع ندائه أو تجاهله ونسيانه، لا أستطيع أن أتخلى عن مسؤوليتي أمام بؤسه"، ويضيف " أن أكون أنا، ذلك يعني عدم القدرة على التهرب من المسؤولية"، فالمسؤولية كما يحددها ليفيناس هي هوية الذات الجديدة التي تضع نفسها في خدمة الآخر، وليست لي الحرية في الهروب من المسؤولية تجاهه، إنها تفرض نفسها عليَّ، ومهما كانت مواقف الآخر تجاهي، فهي مسؤولية غير متبادلة، وإنما في اتجاه واحد، لا تخضع لمبدأ المبادلة أو المقايضة، وإنما هي مسؤولية غير مشروطة!

عندما يأتيني الآخر في زيارة أو يحاورني أو يخاطبني فستتولد داخلي التزامات أخلاقية، تتجلى في أن أكون دائماً موجوداً من أجل الآخر، حتى في لحظات الاحتضار. والاقتراب والتآزر هو إكمال النقص الذي تعاني منه الذات، يكتب ليفيناس "إن عظمة الغير ومحبتي له تجبراني على أن أكون جاهزاً وموجوداً من أجلى؛ فإنني مسؤول تمام المسؤولية عن معنى حياته في محبته والخوف من موته، وتأثري من جراء ما يحدث له، وحزني وقت فراقه"، نتيجة هذا التأثر يتولد الحب تجاه الغير الذي نحمله في مكنون صدورنا وأفئدتنا للغير، فالموت هو الخطر الحقيقي الذي يقترب منا، وحزننا على فراقه، ليس ضيقاً وغماً من الموت والفناء، فهو أمر لا مفر منه؛ وإنما صرخة في وجه العنف والحروب التي ما تنفك إلا وتسفك مئات البشر وتحصد الأرواح وتنشى المدافن. السلام باعتبار ليفيناس ليس نهاية للحرب أو ختاما للاقتتال، أو انصياع الخاسر للمنتصر، يقول ليفيناس "على السلام أن يكون سلامي أنا، بعلاقة تنطلق مع الذات نحو الآخر بالرغبة والطيبة، حيث الأنا تقوم وتستمر بدون أنانية".

 

الغيرية وتجلياتها الخطابية

في أول محادثة مع الآخر، تكون الذات قد تحررت من عقالها وانفتحت على كل غريب ومختلف عنها، مما يحدث انقلابا آخر داخل الذات، فعندما يتحدث موجودان؛ سيبدأ التبادل في لحظة معينة وينطرح بطريقة مستقيمة معلناً عن بدأ عملية الحوار والمحادثة، الأمر الذي يقضي على كل أشكال الانغلاق والعزلة البالية والمعتقدات الراسخة عن الطرف الآخر، يذكر ليفيناس في كتابه (الكلي والنهائي): "إنّ اختراق قوقعة العزلة هو وحده الذي يسمح لنا بالنفاذ إلى آخر الوجود بطريقة مغايرة عنه، وسيشرع أبواب الأنا المؤصدة عن طريق اللغة والحوار نحو الوجود مع الآخر ومشاركته همومه وتطلعاته"، من ثم فإن المقابلة التي تتم بين الوجهين (الأنا والآخر) تحمل في طياتها سلاماً ومحبة وخيرا؛ لهذا فلقاء الذات والآخر وجهاً لوجه يتطلب واجبا أخلاقيا يفرضه الآخر عليًّ، الأمر الذي يستدعي (اللغة) أو الواسطة بين الأنا والآخر، التي تجعل العلاقة بين المتحاورين ممكنة، وتحقق التواصل الكفيل بعقلنة البشر والحد من نزاعاتهم، وهذه اللغة تظل في قلب الأحداث وتبقى الوسيلة الوحيدة لإجراء مفاوضات للخروج بتسويات ظرفية واتفاقيات مرضية لجميع الأطراف، يقول ليفيناس " يمكن أن نسمي هذه المقابلة حواراً يدخل عبرها المتحاورون إلى فكر الآخرين حيث يعطون للحوار قيمة، ويمكن أن نسمي اجتماعية وحدة أشكال الوعي المتعددة الداخلة في عين الفكر".

 

خاتمة

انبثقت فلسفة ليفيناس في عصر اتسم بالمناداة بالذات دون سواها، وانتصار للآلة على حساب الإنسان، كل التيارات الفلسفية كانت تنادي بتذرية الإنسان داخل كيانات فردية معزولة تموت من فرط الخصوصية، وتحول الأفراد لكائنات نرجسية منطوية على ذاتها، ومنشغلة عن كل ما يدور حولها عبر ممارسة طقوس التطهر من الآخر والتنصل من كل أعباء المشتركات الإنسانية، في حين ظهر ليفنياس بوجه مغاير تماماً عبر مبحث الأخلاق والعلاقة بين البيذاتية والإيتقية التي تربط الذات بنظيرها، وتؤكد على ضرورة الاعتراف بالآخر كشخص لا كشيء. طرح حينها ليفيناس أفكاراً غيبته عن التقاليد الفلسفية الرائجة، إلا أنها أثبتت على توالي الزمان، أنّ علاقة الذات لا تتأثر إلا بالعلاقة مع الآخر ممثلة في الصداقة والمحبة والعطاء الإنساني، الذي يُخلف الخير والسلام والمساواة بين بني البشر.

أخبار ذات صلة