سَيف الوهيبي
يُلخِّص هذا المقال بحثا بعنوان "الاستشراق الروسي في القرن التاسع عشر"، للكاتب لورين دو مو، ترجمة أحمد عثمان، والمنشور بمجلة "التفاهم".. حيث شكلت الرحالات التي قام بها الروس الأوائل من تجار ورجال دين وحجاج إلى بيت المقدس، حتى الرجال الذين شاركوا في الحملات العسكرية، بدايات تأسيس الفكر الاستشراقي الروسي، وكان للروس طرق عديدة للاتصال بالشرق. أما البدايات الفعلية لمدرسة الاستشراق الروسي -حسب ما تشير أغلب الدراسات التاريخية- فقد تشكلت في عهد بطرس الأول، التي كان لها الأثر الكبير بعدها على مستقبل روسيا، وحاجاتها المتزايدة للتعرف إلى جيرانها، مواكبة للنمو المطرد لروسيا، سواء كان ذلك على المستوى السياسي أو الاقتصادي.
وقد أصدَر بطرس الأول مراسيمه بإعداد دارسين لمختلف اللغات الشرقية، وتهيئة رجلين أو ثلاثة من الرهبان الشباب الذين باستطاعتهم أن يتعلموا اللغة الصينية والمغولية قراءة وكتابة، واللغة اليابانية، وأصدر أمراً بتوجيه بعثة من الشباب الروسي إلى إيران لتعلم اللغات الفارسية، وقد تواصل هذا الاهتمام، لا سيما خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر؛ ففي عهد القيصرة كاتيرينا الثانية تم التوسع في تعليم لغات الشعوب الإسلامية في الأقاليم الإسلامية، كما تم التوسع في الطباعة العربية، ولقد كان لمطابع سان بيترسبرج وقازان شهرة عالمية في هذا المجال، حيث طُبعت العديد من المؤلفات والكتب الإسلامية، ويأتي على رأس تلك المطبوعات، طباعة المصحف الشريف سنة 1778م. وحقيقةُ الأمر أن روسيا كانت تراودها فكرة توسيع نفوذها السياسي على البحر الأسود مروراً ببحر اليابان.
بداية الاستشراق الروسي
ومع انتشار رُقعة الأمة الروسية، انفتح نقاش حول الهوية الروسية ودور روسيا في العالم؟ وهل باستطاعة روسيا دراسة الشرق؟ أم أن الأمر أصبح لزاماً عليها؟ وقد كانت الحكايات العسكرية والنتاجات الادبية حول الشرق تنتشر من قبل شرائح مختلفة في أوساط المجتمع الروسي، من قِبل المترجمين أو العسكريين، حتى المستشرقين والأكاديميين، وقد لامست أهمية الشرق الذائقة الرومانسية لدى الحضارات البعيدة، التي استسلم لسحرها الشعراء، الرسامون الروس. في حين كثفت الحكومة الروسية بمبادرة من غورتشاكوف وزير الشؤون الخارجية من عام 1856 إلى عام 1881 نشاطها في الشرق، في محاولة لإعادة السلام في القوقاز، مع غزو عدة أقاليم من آسيا الوسطى، وقبل ذلك بنحو عامين تم افتتاح أول كلية للغات الشرقية في روسيا، بمدينة سان بطرسبيرج، وقامت الحكومة بإرسال الطلاب للمدارس الأوروبية المختلفة التي تهتم بتدريس الشرق ولغاته، هذا وقد توجهت الحكومة منذ بدايات القرن التاسع عشر بإنشاء الأقسام والكراسي الجامعية في أربع من أهم الجامعات الروسية؛ مثل: جامعة خاركوف، وجامعة قازان، وجامعة موسكو، وجامعة سان بطرسبيرج.
روسيا (الشرقية الغربية)
غذَّى المستشرقون الروس فكرة الهوية الروسية وعلاقتها بالشرق، والنقاش الدائر حول الأصول الشرقية الروسية، ثم تم إنشاء المدارس المتخصصة في تكوين العسكريين العاملين في الشرق بدءًا من عام 1899، وكانت المناهج تدرس التجارة والاقتصاد والتنظيم السياسي لليابان وكوريا ومنغوليا ومنشوريا، وأصلت الحكومة الروسية نشاطها المهتم بالشرق، من خلال إرسال البعثات التربوية والتحررية، إلى جانب البعثات الدينية. في الربع الثاني من القرن التاسع عشر عرفت روسيا في ذروة قوتها الأوروبية، نشاطا غير مسبوق على حدودها الشرقية، ووطدت حروبها المتلاحقة ضد تركيا وإيران أوضاعها في القوقاز، وتضاعف عدد إصدارات التاريخ المعاصر حول الشرق وعلاقته بروسيا، وقد قام الكونت سرجي أوفاروف بدور كبير في تنمية الدراسات الشرقية في روسيا، وشدد على ضرورة العمل على تطوير دراسة اللغات الشرقية، يقول: "الأهمية السياسية واضحة للغاية، إيجابية للغاية، إلا أنه يكفي المرء أن يلقي نظرة على الخارطة لكي يقتنع بها".
كونت سرجي أوفاروف والمستشرِقيْن الأبرز: فريهن وشارموا
قام المستشرقون الروس باختلاف مكاناتهم وأطيافهم بجهد كبير في كشف أجزاء معتمة من أقاليم الامبراطورية الجديدة من خلال الدراسات الإنثروبولوجية، والتاريخية، والجغرافية، والأدبية، والمخطوطات، وعلم المسكوكات...إلخ، ويعد الكونت سرجي أوفاروف من أهم الرواد في مجال تنمية الدراسات الشرقية في روسيا؛ حيث آمن بوجود علاقات وطيدة تربط الشرق بروسيا، ورأى أن لروسيا رسالة في علاقتها بالشرق، وقد استقبل في العام 1818 الفرنسيين فريهن وشارموا، اللذين كان لهما الدور البارز لاحقا في قيادة التاريخ الاستشراقي الروسي؛ فقد كان فريهن متخصصاً في اللغتين العربية والتركية، وقد تولى منصب مدير المكتب الشرقي، وعينه أوفارف بعد ذلك مدرساً للغة العربية في جامعة قازان، قبل أن يعود إلى موطنه روستوك وينكب على تعلم الفلسفة الشرقية وعلم المسكوكات، وقد تأثر العديد من الشباب الروسي بفريهن منهم: جريجورييف وسافليليف، اللذان قدما دراسات متعددة في تاريخ القبائل التركية والمغولية، وسنكوفسكي الذي أسس كلية مستقلة للغات والآداب الشرقية، في حين قدم المستشرق الفرنسي سلفستر دو ساسي زميله شارموا للكونت أوفاروف؛ لكي يُدرس الفارسية والتركية في قسم اللغات الشرقية بكلية التاريخ والفلسفة بسان بطرسبيرج، وقد فرض شارموا لاحقا نفسه على الوسط الجامعي.
تعدَّى تأثير فريهن وشارموا جمعية المستشرقين؛ حيث انتشرت إسهاماتهما المنشورة في المجلات غير المتخصصة الصادرة في سان بطرسيبرج وموسكو دائرة قرائهما، وتم نشر أعمالهما من قبل ورثتهما المثقفين، وأسهم الفرنسيَّان في إيجاد مصادر جديدة ومتنوعة لتاريخ روسيا، حيث قاما بإعداد مدونة طويلة عن المؤرخين المؤثرين لدراسة التاريخ الروسي منهم: الكتاب والأدباء العرب والمسلمون الذين اهتموا بإثولوجيات الروس القدامى: السلاف، والبلغار، والخرز، وسطروا تاريخ أوزون حسن، الأمير التركماني الشهير قره قوينلو، والصفويين، والملوك الأفغان لفارس، وقبائل الزند والقاجار. ويذكر المؤرخون تحديدا مراجع بالغة الأهمية مثل، مروج الذهب للمسعودي،وأشار المستشرقون للكُتاب الذين كتبوا تاريخ مختلف الأسر المغولية، على وجه الخصوص أسرة أولوس بدجوتشي، وأسرة الخانات بقازان، وأسرة آستراخان، ومؤرخي عائلة جيراي بالقرم، ومؤرخي الحوليات العثمانيون منذ عهد السلطان بايزيد.
وأسهم المستشرقون في التحضير لكتابة تاريخ الامبراطورية الروسية، بإدراج تاريخ الشعوب المجاورة قبل السيطرة عليها، واستمرت مدرسة الاستشراق الروسي نحو استقلاليتها عن طريق توفر المواد الاستشراقية والمخطوطات والقواميس الشرقية، وظهرت الترجمات بصورة واضحة في جميع أنحاء روسيا.
