موقف مدرسة المنار من التصوف

محمد السيفي

ترتكز الجهود التجديدية عند الإمام محمد عبده ومدرسته المنار عند الكاتب محمد حلمي عبد الوهاب في مقاله المنشور في مجلة التفاهم بعنوان (الجدال لدى المفكرين المسلمين في الأزمنة الحديثة باعتباره منهجا للدعوة: مدرسة المنار وقضايا التصوف أنموذجا) على فكرتين أساسيتين؛ الأولى: تحرير الفكر الإسلامي من قيود التقليد، والثانية: إصلاح اللغة العربية لجهة الأساليب، كما كانت خصوصية هذه المدرسة ـ كما يرى الكاتب ـ في أصالتها وشموليتها؛ فتمثلت أصالتها في أنّ دعوة الإمام الإصلاحية "تمثل كيان أمة بكل مقوماتها الحضارية بثوب جديد اقتضته ظروف التغير المستمر، وروح العصر المتغيرة"، وأمّا شموليتها فقد اقتصر الكاتب على ذكر أهمية الشمولية لدى المفكر، وفي الواقع إنّ الشمولية هي صفة الفكر الإسلامي الذي حاول الإمام محمد عبده علاجه.

وصف الإمام دعوته ومنهاجه الإصلاحي التجديدي بقوله: "ولقد خالفت في الدعوة رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منها جسم الأمة: طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون العصر ومن هو في ناحيتهم"؛ ومن هذا يتبين لنا ما يترتب على ذلك من ضرورة تميز موقف الإمام عن غيره في كثير من القضايا، ومن ذلك موقفه من (قضايا التصوف والصوفية)؛ فرأيه وموقفه كان مخالفا لرأي الفئتين السابقتين؛ فالأولى غلب عليها الاتباع الذي أدى إلى الابتداع، وأما الثانية فقد غالت في رفضها للتصوف بالكلية؛ بحجة أنّه مناف للعقل، ومضاد للمدنية، وبناء على ذلك سعى الكاتب إلى إبراز موقف صاحب المنار من قضايا التصوف، كما سعى إلى كشف طبيعة الجدالات الفكرية التي دارت حول هذا الموضوع على صفحات المنار.

ذكر الكاتب أنه سيمهد بوصف الجدال الحاصل بشأن التصوف في الأزمنة الحديثة، واستكشاف موقع التصوف في سياق النهضة الإسلامية عامة، وذلك من أجل وضع موقف مدرسة المنار في سياقها التاريخي الذي صدرت فيه، والأهم ـ في رأيي ـ هو التمهيد بوصف الحالة الاجتماعية والسياسية والمعرفية لتلك الفترة، إلا أنه لم يقم بذلك التمهيد الضروري كافة، وإنّما شرع مباشرة في دراسة آراء المدرسة التي يرى أن روادها لم يغفلوا عن التصوف بوصفه منحى وبعدا مهما جدا من أبعاد النهضة الإسلامية الشاملة، بل أولوه عناية كبرى؛ فلفتوا الانتباه إلى مركزية هذا المكون الروحي العميق أولا، وعملوا على تأكيد أصالته ثانيا، ودليل الموقف الإيجابي لمدرسة المنار من التصوف هو ما كرره الإمام محمد عبده من أنه إذا يئس من إصلاح الأزهر فإنّه سينتقي عشرة من طلبة العلم، يربيهم تربية صوفية، ويكمل تعليمهم، وكذلك تعقيب الشيخ رشيد رضا على ذلك بقوله: "ولو تم للأستاذ الإمام هذا، على الوجه الذي يريده؛ لكان أعظم أعماله فائدة"، لكن ذلك الموقف لم يمنع الشيخ رشيد رضا من نقده لكثير مما شاع عند أهل التصوف في عصره، فاشتملت مجلة المنار على كثير من النقد للممارسات العملية لجموع المتصوفة، ويمكن أن نقسم اتجاهات النقد للتصوف عند الشيخ رشيد رضا إلى اتجاهين؛ الأول: نقد ما يتعلق بالممارسات والطقوس والشعائر الصوفية، والثاني: ما يختص بنقد المقولات والاعتقادات النظرية، وقد كان أول نقد صريح وجهه إلى علماء الأزهر هو حول ما أطلق عليه "بدعة احتفالهم بمولد الإمام الشافعي، الذي يسمونه الكنسة؛ لأنهم يكنسون فيه قبة الضريح، ويقسمون كناستها بينهم للتبرك بها"، وكذلك انتقد سكوت العلماء عن إنكار الخرافات التي تأتي بها الجماهير،  كما أنه كتب مقالا بعنوان (المولد الحسيني والمنكرات والبدع والعلماء)، واصفا إياه بالاحتفال الأكثر بدعا ومنكرات، كما استغرق نقده لمظاهر الاحتفالات بالمولد حيزا كبيرا من اهتماماته، حيث أفرد لها مقالا في العدد العاشر بعنوان: (تأويل بعض علماء الأزهر لخرافات القبوريين في الموالد)، أكد فيه أن الأولياء كسائر الأموات لا يملكون للناس ولا لأنفسهم ضرا ولا نفعا؛ لا بالذات ولا بالواسطة والشفاعة، وأما فيما يتعلق بنقده للتوسل؛ فقد نشر مقالين طويلين في المجلد الرابع بعنوان: "الواسطة بين الخلق والخالق والرد على بعض العلماء فيها".

ومما يعيبه الشيخ رشيد رضا على الصوفية الإفراط في الحديث عن الجانب الباطني للدين؛ حيث يقول في ذلك: "كان من غلو الصوفية أن أفرطوا في الكلام على حكمة الدين وأسراره؛ حتى بعدوا بها عن النصوص والسنن، ثم زعموا أن للقرآن ظاهرا وباطنا، وأنّ مدلول النصوص هو الظاهر، وأمّا الباطن فلا يعرف إلا بالكشف والإلهام، ومن هذه الثغرة دخلت على هؤلاء دسائس باطنية"، كما يؤكد أنّ الضلال الحاصل بسبب التصوّف أكبر بكثير من الهداية الحاصلة به؛ حيث يقول: "لقد اهتدى بالسلطة الروحية المطلقة والعمياء أقوام، ولكن الذين ضلوا أكثر من الذين اهتدوا.. فقد قام مقام أولئك الشيوخ العارفين شيوخ جهال ألقوا بذور الضلال في نفوس أتباعهم، فنبتت وأثمرت ثمرا خبيثا جنت الأمة منه حنظلا وطعما زقوما..."، كما استحوذت مسألة الكرامات على الكثير من كتابات الشيخ رشيد رضا؛ ففند الآراء المغالية فيها، محاولا جعلها متسقة مع تصوره الإصلاحي التجديدي.

ويرى الكاتب أنّ موقف الشيخ رشيد رضا من التصوف إنّما كان بوجود نيّة دفاعيّة عن الإسلام، ذلك يبدو من خلال تأكيده أنّ ممارسات أهل الطرق قد دفعت المستشرقين إلى اتهام الإسلام بأنّه دين سحر وشعوذة، وليس جديرا بالاعتقاد في صحته والإيمان بدعوته، كما أن الكاتب أشار إلى أن تأثر الشيخ رشيد رضا بطريقة ومنزع أستاذه محمد عبده في الإصلاح والتهذيب تبدو بينة للعيان، لكنه لم يثبت على هذا الطريق لنهايته، وإنما تحول إلى المنزع الوهابي المتشدد في موقفه العام من التصوف والصوفية، ولا أدل على ذلك من محاضر اجتماعات أم القرى التي داوم على نشرها في مجلة المنار، وقد تضمنت هجوما شديدا على التصوف، وصل في بعض الأحيان إلى إخراج أتباعه من دائرة التوحيد بالكلية.

أخبار ذات صلة