سلطان المكتومي
قد يتساءل المرء ما القيم التي كانت سائدة في مجتمع ما قبل الإسلام؟ وكيف وجدت هذه القيم؟ وما مصادرها؟ من الصعب أن يتغير المجتمع في عاداته وقيمه في يوم وليلة، وأقصد بذلك دعوة الإسلام التي انتشرت في الجزيرة العربية بالكامل، وقد غير الإسلام كثيرا من العادات السيئة في العالم العربي، وأوجد الكثير من الأخلاق؛ فالنبي الكريم في الحديث المشهور عنه (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). كتب الكاتب عبدالإله بلقزيز أستاذ الفلسفة في جامعة الحسن الثاني بالمغرب مقالة حملت عنوان "القيم والمتغيرات الاستراتيجية" على صفحات مجلة التفاهم وتناول هذه القضية وهي كيف وجدت القيم في المجتمع أو آليات رسوخ القيم عبر خبرات السنين الطويلة في المجتمع ومصادرها الرئيسية.
إنّ القيم هي كل ما يؤسس لنظام اجتماعي، أي ما يدفع جماعة بشرية إلى تكوين اجتماع إنساني؛ أيا كان حجمها والنطاق المكاني الذي تقوم فيه. ولا يخلو مجتمع من المجتمعات الإنسانية في التاريخ من منظومة قيم، أو من منظومات قيم، تكون فيه بمنزلة "لائحة شرائع" حاكمة للعلاقات الاجتماعية، ومؤسسة للتبادل الاجتماعي، الرمزي والمادي، وللتضامنيات البينية التي لا كينونة لمجتمع من دونها. أشار الكاتب إلى أن منظومة القيم قد تكون مكتوبة مدونة، حين تستثمر في وضع القوانين والتشريعات كما في الدول قديما وحديثا - في الأعم الأغلب من الأحوال- تظل في جملة غير المكتوب من الأعراف الموروثة والفاشية بين الناس.
يمكن تعريف المجتمع بأنّه فضاء للعلاقات المختلفة الناظمة لمجموعة بشرية مثل علاقات القرابة، والتضامن، والدفاع الذاتي، وتقسيم العمل، وقواعد السلوك وهي - بالجملة - ما يميز المجتمع الإنساني عن الحيواني. إنّ القيم هي مجموع الأخلاق العامة التي تنتظم سلوك أية مجموعة بشرية، وتضع له الضوابط الحاكمة والمضمون الجمعي الذي تتأسس به علاقات التبادل الاجتماعي للأفكار، والمعايير، والحساسيات، والأذواق، بما هي عناصر ومشتركات جامعة. والعلاقات هذه هي ما يكون - في محصلتها العامة - النظام الاجتماعي. وأكمل الكاتب أنّه من المستحيل تصور مجتمع إنساني من دون قيم حاكمة ومؤسسة، وليست استحالة التصور استحالة منطقية، وإنما هي استحالة واقعية؛ فالواقع التاريخي أثبت ما بين القيم وأنظمة الاجتماع من تلازم قابل للبيان من طريق أدوات التحليل التاريخي والأنثروبولوجي. يمكن حسبان القيم مجموع الثوابت الأخلاقية والرمزية التي يستقر عليها مجتمع ما، بما هي منظومة مرجعية للسلوك الجماعي وللعلاقات الاجتماعية. وقد يعزز النظر إليها أمران: أولهما أنّها موروثة من الماضي؛ بحيث يعاد إنتاجها في أزمنة لاحقة من وجودها وتمظهرها، وعلى نحو يوحي أنّها لا تاريخية وثانيهما أنها تحتفظ بقدر من الاستقرار والديمومة.
يشير الكاتب إلى أنّ الكثير من قيم عصرنا الحديث مثل حرية الفرد، والحق في الاختلاف، والتحرر من قيود الاسترقاق، وحرية الرأي.. إلخ لم يكن داخلا في نسيج المجتمع قيم الماضي الإنساني القريب، وإن هو أصبح اليوم من بديهيات الحياة وكأنه من مواريث غابرة فلقد تولد من تحولات العصر الحديث؛ منذ الإصلاح الديني، والثورة الصناعية، والثورة العلمية. وفي نظري أنّ هذا من مظاهر التطور الكبير للإنسان فالحرية والديمقراطية عمل إنساني عظيم ناهيك عن القيم الأخرى الجديدة. في المقابل تراجع مفعول قيم الثأر والقصاص نتيجة الدولة والقانون وفكرة الحق العام.
تؤدي بنا هذه المتغيرات في النظام الاجتماعي /الثقافي إلى التشديد على طبيعة النسبية والتاريخية للقيم، بما هي منظومات مفتوحة لا مغلقة، خاضعة لأحكام التطور والتراكم، لا محكومة بقوانين الثبات.
هنالك الكثير من القيم في المجتمع ويمكننا أن نميز ثلاثة مصادر رئيسية وهي: الدين، والعرف، والقيم الحديثة. ليس من شك أنّ القيم الموروثة عن الأعراف والتقاليد هي أكثر القيم عراقة وقدما في الزمان؛ فهي تنحدر- في المجتمعات العربية- من أزمنة وحقب سابقا لرسالة الإسلام وقيمه، وهي في جملتها محصلة الخبرة التاريخية والاجتماعية لمجتمعات شديدة التمسك بتقاليدها، وخاصة بالنظر إلى تاريخها الأنثروبو- ثقافي كمجتمعات شفوية. أمّا عن القيم المستمدة من تعاليم الدين – سلطة ملحوظة في نظام العلاقات الاجتماعية، وفي منظومة الأخلاق العامة والسلوك الفردي والجماعي. والسلطة هذه مأتاها من سلطة الدين؛ كتعاليم يتشبع بها المؤمنون، وتتحول لديهم إلى قوة إلزام، ثم كنظام اجتماعي ناشئ من الشعور بواجب انتظام أمر اجتماع البشر على مقتضى لأحكام الدين وأوامره ونواهيه، ولا يتعلق الأمر في هذا بالأديان التي تتضمن شرائع- إلى جانب العقائد- مثل اليهودية والإسلام، وإنما أيضا بتلك التي تخلو تعاليمها من شريعة كالمسيحية. كما أنّ الأمر لا يتعلق بالأديان التوحيدية الثلاثة؛ بل أيضا بالديانات جملة؛ فهي جميعا تمد المجتمعات التي تدين بها بنظام قيم تلتزمه بوصفه النظام المثالي الفردي والجماعي المطابق للحق المطلق.
أمّا القيم الآتية من الدين في حالة الإسلام كما في حالة غيره من الأديان إنّما هي - في أصولها - من الموروث الاجتماعي العرفي السابق وجودًا للدين. وقد عدت بسبب مضمونها الإنساني الرفيع، وتناسبها مع القيم التي جاء بها الدين. قرر الحديث المشهور الذي ذكرته في هذا المقال حقيقة تواصل بين المأثور الاجتماعي العرفي، والنظام القيمي الديني. على أنّ القيم المستمدة من الدين تظل – في مجتمعات الكتاب أو في مجتمعات التعاليم الدينية - كأكثر القيم رسوخا وديمومة-.
والمصدر الثالث للقيم هو المدنية الحديثة ومنظوماتها الاجتماعية/ الثقافية الجديدة، والوافدة إلى "المجتمعات الإسلامية " منذ مطالع القرن التاسع عشر. مست هذه القيم – في بدايتها – شرائح صغيرة وضيقة في هذه المجتمعات، وخاصة في البيئات المدنية الأرستوقراطية. كل هذه القيم انتشرت بسبب انتشار العلم، والتمدين المتسارع وأيضا في الوقت الراهن انتشرت بسبب كثرة وسائل الاتصال الحديثة من صحف، ومجلات... إلخ
وأخيرًا، أوضح الكاتب كيف ترسخت هذه القيم الجديدة في المجتمع حديثا وقديما، وكيف دخلت القيم الجديدة إلى العالم الإسلامي.
