أيمن البيماني
ساعد الامتداد الجغرافي للحضارة العربية والإسلامية وانفتاحها وتواصلها مع الحضارات الأخرى على بناء نهضة عظيمة أُشير لها بالبنان، ولكن كان للقيم المُستمدّة من مقاصد الشريعة وأصول الدين الدور الأكبر في صقل الأخلاق الإنسانية في فترات خلت. وهنا نُحاول تحليل وتفسير مقال (نور الدين مختار الخادمي) والمنشور في مجلة التفاهم بعنوان: "القيم الأخلاقية الإنسانية ومقاصد الشريعة في عصر النهضة العربية والإسلامية".
إنّ الباحث بعمق تتجلّى لديه الرؤية الواضحة حول ترسيخ وتضمين مقاصد الشريعة وموضوعاتها في القيم الأخلاقية الإنسانية، ولذلك فإنّ هذه المقاصد تعتبر مثل الوعاء أو الحاضنة لتلك القيم، ولكن بعدة مستويات كما سنذكرها تباعاً.
فهناك (مستوى مقاصد الشارع) عزّ وجلّ، وهي المقاصد التي تشير إلى الهدف من وراء الخلق والأمر من قِبل الله سبحانه وتعالى، ولا يسعنا إلا أن نُشير إلى الارتباط الوثيق بين مقاصد الشارع والقيم الأخلاقية الإنسانية، حيث ضمن الله من جهة حقوق الإنسان، وحفظ كرامته وكرّم عقله وخَلْقه وخُلُقه بالمستوى الذي يُعينه على أن يكون عبدًا صالحاً مخلصاً له عز وجل {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]. ومن جهة أخرى تجلّت مقاصد الشرع في تقرير وظيفة الإنسان ورسالته في الحياة ودوره في إعمار الأرض، والحكم بما أنزل الله تعالى {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]، إضافة إلى الأمر بالتنوّع بينهم والتعارف والاندماج {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، وأن يستقروا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ} [الأعراف: 24]، وضمن كل هذه الأمور بالدين الإسلامي الذي ينظّم حياة المسلم ويوجّهها كدين شامل جامع مانع اختاره الله للناس {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
ثم هناك (مستوى قصد المكلَف). وهو الإنسان الذي استخلفه الله في هذه الأرض، ورغم التسلسل الذي بينهما فإنّ قصد المكلَف يعتبر رديفاً في الذكر والبيان لقصد الشارع، وقصد الشارع إلى قصد المكلَف يشمل عدّة أمور وهي:
1. أن يكون قصد المكلَف مبنياً على الإيمان بأركانه الستة وعقيدته الصحيحة وسائر متطلباته، وبالتالي النهي عن الشرك أو الكفر بالله تعالى.
2. أن يكون قصد المكلَف يتّسم بسمات الإخلاص وجوهره صفاء النية، بعيداً عن النفاق وحب الظهور والرياء {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} [النساء: 38].
3. أن يكون قصد المكلَف مبنياً على الحب والمودّة والتواضع والبعد عن الكراهية والحقد، وكذلك الرحمة مع سائر المخلوقات إلا مع من ينتهك مبدأ الرحمة ويعذّب الناس ويؤذيهم، والامتناع عن الكبر مع الناس إلا في حالة مجابهة ظالم أو طرد طاغية ومحتل.
إنّ قصد المكلَف له اتصال عميق وتأثير مباشر وكبير في بناء القيم الأخلاقية الإنسانية والتي ترتكز على حسن الفهم، والرغبة في تحقيق الأفضل في القول والفعل بإرادة إنسانية كبيرة، وإنّ هذه الإرادة لهي الركن المتين للنهضة الحضارية.
ثم هناك (مستوى المقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية)، وهو ما يُشير بشكل أكثر وضوحاً إلى المصالح من حيث تحصيلها وتفعيلها وفق الشريعة الإسلامية، والمفاسد ودرؤها ودفعها عن الناس وحياتهم ومصالحهم. فأمّا المقاصد الضرورية فهي ما تقوم عليه حياة الإنسان من ماء وغذاء وهواء وحقوق الإنسان الضرورية، وبدونها لا تستقيم حياته وصحته. أمّا المقاصد الحاجية فهي التي تصعّب الحياة وتصبح ذات مشقة كبيرة عند انعدامها مثل المهن والحرف التي تُكسِب الإنسان قوت يومه وتعينه على إعمار الأرض، ولكن لا يفنى الوجود عند فقدانها. بينما تهدف المقاصد التحسينية إلى تحسين حياة الناس من حيث الرخاء والراحة والتطيّب والتنزّه والتحضّر والتمدّن، مما يعطي الحياة جمالاً آخر وراحة أكبر. إن هذه المقاصد الثلاثة لها دور كبير في ترسيخ القيم الأخلاقية الإنسانية من خلال:
1. المقاصد الضرورية ترسّخ ما هو ضروري مثل كرامة الإنسان وحرمة الاعتداء عليه، والعدل والإحسان بين الناس والوفاء بالعهود {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} [النحل: 91].
2. المقاصد الحاجية ترسّخ ما هو حاجي مثل الحثّ على العمل وكسب الرزق، ومُعاملة العاملين والبعد عن كلّ ما يسبب إحراجاً ومشقة في العيش.
3. المقاصد التحسينية ترسّخ ما هو تحسيني مثل التحية وإكرام الضيف والخدمة التطوّعية، والتآلف والتآزر بين المجتمعات والتواصل بينها.
المستوى الرابع هو (مستوى المقاصد الخمسة)، وهي كالتالي:
- (حفظ الدين). ويفضي إلى حفظ القيم الأخلاقية التي أسسها وأقرّها الدين، ولها دور كبير في تقرير القيم الأخلاقية النابعة من العقيدة والشريعة مثل قيم العدل والأمانة والحرية والكرامة وصلة الرحم وبر الوالدين {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].
- (حفظ النفس). وتعني حفظ النفس الإنسانية من خلال إكرامها وعدم إهانتها، وتوفير معاشها ودوائها وتقدير دورها في عمارة الأرض وعدم إهلاكها {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ} [البقرة: 195].
- (حفظ العقل). وهو البعد عن كل ما يذهب ويفسد العقل كالشعوذة والسحر والجهل والدجل والخمر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]. كذلك البعد عن المهاترات السياسية والإعلامية والفكرية والفلسفية والجدلية والدينية، وهو ما يُساعد على بناء القيم الأخلاقية الإنسانية بما يعود بالنفع على الإنسانية.
- (حفظ النسل). وتمثّلت هذه الخاصية في نعمة عظيمة حفظت هذا الحق ونظّمته ألا وهي (الأسرة)، والتي تحفظ العرض والنسل والحسب والنسل والأولاد {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ} [الإسراء: 31]، ولا ينظر فيها إلى حالات الشذوذ الزائغة عن هذا الدين.
- (حفظ المال). وهي مجموعة الأخلاق التي تحفظ المال كتنميته واستثماره وزيادته، والبعد عن الفتن والرِّبا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] والرشاوي والسرقات وأكل المال بالباطل وهضم حقوق الناس في أموالهم. وتساعد هذه الخاصية على حفظ أخلاقية الكسب والتجارة، والبيع والشراء، والصدق والأمانة في المعاملات التجارية، مما يرسّخ ويبني الحياة المالية للإنسان على القيم المستمدة من مقاصد الشريعة الإسلامية.
يأتي بعد ذلك (مستوى وسائل المقاصد). وتتمثّل في أنجع الطرق في عملية الوصول إلى القيم الأخلاقية وترسيخها. فيمكن للإنسان اختيار أفضل الوسائل المختلفة لتحقيق الأمن العام، والتواصل بين الشعوب وترابط المجتمعات والحضارات، مما يُسهم بشكل كبير في تشكيل الصيغ والطرق الناجعة في عمليات بناء قيم الأخلاق وفضائل الإنسان.
المستوى السادس هو (مآلات أفعال الناس). وهي تمثّل ما تؤول إليه أفعال الناس وسياسات الدول والقوى الإقليمية والعالمية. والقيم الأخلاقية الإنسانية اليوم جديرة بالبحث ومعالجة الخطر، حيث طغت المادة وكثرت الحروب، وزاد حجم الظلم والاستبداد والقمع، وهُضِمت الحقوق الإنسانية، وهو مآل خطير للغاية على القيم الأخلاقية الإنسانية مما ينبغي التوسّع في دراستها وتحديد أسبابها وطرق مواجهتها.
المستوى الأخير هو (مستوى الموازنات والأولويات المقاصدية). وهو وزن المصالح والمفاسد للوصول إلى غاية القيم الأخلاقية الإنسانية، ولذلك تقدّم مصلحة الأكبر على الأصغر، والعامة على الخاصة، والدائمة على المؤقتة، والأهم على الأقل أهمية، وتتوقف حرية الفرد عندما تبدأ حرية الجماعة، ولذلك تحديد هذه الأولويات يرسم طريقاً واضح المعالم لأخلاق إنسانية وقيم إسلامية متجددة باستمرار.
إنَّ ما آلت إليه الأمة العربية والإسلامية اليوم من تشتت وضياع لهو شيء ينبغي إعادة النظر فيه، وذلك من خلال بناء نهضة عربية إسلامية جديدة مرتكزة على البعد المقاصدي للقيم الأخلاقية الإنسانية. إن إحياء مقاصد الشريعة الإسلامية سيكون وسيلةً ناجعة للغاية من أجل نهضة عربية إسلامية مبنية على قيم أخلاقية إنسانية في مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والتعليمية والفكرية والقضائية والاجتماعية والإدارية والبيئية.