الطريق إلى الاعتراف والتحرر عبر بوابة التسامح

سيف الوهيبي

 

يُعرف مفهوم التسامح بوجه عام على أنه "الرغبة في التخلي عن حقنا في الامتعاض والحكم السلبي، والتصرف باعتدال تجاه من آلمنا على نحو جائر، وتعزيز أخلاق الشفقة والسماحة وحتى الحب على الرغم من أنه قد لا يستحقه (أو لا تستحقها)"، إلا أن التسامح -حسب الخطاب السياسي المعاصر- له مناحٍ مختلفة وجوانب متعددة تشتمل على الاعتراف  بالآخر والتعايش معه على أساس حرية المعتقد وحرية التعبير؛ مما يُفضي إلى تعايش مشترك وسلمي قائم على اعتراف متبادل ومساواة سياسية بين المعنيين به، وكما يمكن أن يُبنى التسامح على أساس الاعتراف والاحترام المتبادلين، كذلك يمكن أن يكون التسامح في أحيان كثيرة تعبيراً عن الهيمنة وإضماراً للازدراء تجاه الآخر في محاولة لمنعه من التحرر!

 

نناقش هذه المفاهيم في مقالالكاتب د.محمد عبدالسلام الأشهب -والمنشور بمجلة "التفاهم"- بعنوان "التسامح.. الاعتراف والتحرر"، وترجمه عن الألمانية للمؤلف راينر فورست.ولاستخلاص مفهوم التسامح، سنطرح روايتين: الأولى، قاتمة ومتشائمة. والثانية: مشرقة ومتفائلة، وتمثل الروايتان أساساً لممارسات ومعنى التسامح نسقطها على واقعنا المعاصر، وكلتيهما صحيحتان حسب المنظور التاريخي أيضاً.

 

الرواية الأولى

وبعد مجزرة "سان بارثمي" الأليمةالتي ارتكبت في حق الأقلية المسيحية البروتستانتية والمعروفة " بالهوغونوت" في عصور الظلام التي كانت تقبع بها أوربا، عينت فرنسا -وفي تحول مفاجئللسلطة- الملك هنري الرابع زمام السلطة؛ حيث من المعروف أن هنري كان يعتنق المذهب البروتستانتي، ولكن سرعان ما أعلن هنري اعتناقه الكاثوليكية في محاولة منه لرأب الصدع ووضع حد للحرب الأهلية، وهو ما نتج عنه إصدار المرسوم الشهير المعروف "بمرسوم نانت"، هذا المرسوم الذي اعترف بكل وضوح بالأقلية البروتستانتية بوصفهم مواطنين فرنسيين ولكن من الدرجة الثانية ومنحهم بعض الحريات، من بينها حرية ممارسة الدين في أماكن مخصصة وبأزمنة محددة، وحدد المرسوم المناصب التي يمكن لهم تقلدها في المؤسسات العمومية، وأي نوع من المدارس والجامعات التي يسمح لهم بتشيدها وارتيادها ..الخ، وفي المجمل يمكن القول أن الأقلية البروتستانتية حصلت على اعتراف بهويتها، وبفضل هذا المرسوم تمت حمايتها من كافة أشكال القمع والاضطهاد، لكن في الوقت نفسه عززت هذه القوانين من موقعها في وضعية تحظى فيها الجماعة بنوع من التسامح مقابل خضوعها لإرادة السلطة الحاكمة، كما أنها ظلت تحتل دائماً المرتبة الثانية في الهرم الاجتماعي بعد الجماعة الكاثوليكية في مجمل الحياة اليومية العامة.

هذا النوع من التسامح والاعتراف المنقوص كان يعني شكلاً من أشكال الوصم الاجتماعي والثقافي، وفيه انتقد الثوري الفرنسي ميرابو هذا النوع من التسامح بقوله: "التسامح المشروط هو علامه للاستبداد والطغيان ما دام تسامحاً واعترافاً من طرف واحد تمنُّ به الجماعة الحاكمة على الأقلية التي تقبل بكل شروطه، وتظل في وضعية تتسم بالخضوع والتبعية العمياء لأمر الحاكم"،ومثله تعرض هذا التصور من التسامح إلى سلسة من الانتقادات من لدن فلاسفة عصر التنوير، أمثال إيمانويل كانط، وغوته، فسياسة التسامح تبدو مثل نوع من السياسة الاستراتيجية أو شكل من التراتبية؛ فالاعتراف الذي تحظى به الأقلية يمنحها حريات مقيدة، ويجعل في الوقت نفسه أعضاء الجماعة مجرد رعايا تابعين ومواطنين من الدرجة الثانية، فهم لا يتمتعون بالحقوق نفسها، بل تمنح لهم تراخيص خاصة يمكن أن تسحب منهم في أية لحظة.

 

الرواية الثانية

وفي خضم الصراعات التي خاضتها الأقاليم البروتستانتية بشمال هولندا ضد الحكم الإسباني والإكراه الذي تفرضه الكنيسة الكاثوليكية، ندرس تطورين مهمين بخصوص الصراع من أجل الحرية الدينية -خاصة الكتابات الكالفينية (نسبة للمصلح الفرنسي جون كالفن) التي عرفت بمعارضتها للملك.

التطور الأول يخص الإعلان عن الحق الطبيعي في ممارسة الحرية الدينية، كحق معطى من الله، بوصفه حقاً سياسيا أساسياً، أما التطور الثاني فهو ما يتعلق بمعارضة السلطة الحاكمةالتي أبت أن تحترم هذا الحق الأساسي بوصفه حقا طبيعيا بعيداً عن الواجب السياسي والديني؛ أي بدافع واجب الحق الطبيعي، فمثل هذه السلطة المستبدة تكون قد نكثت العهد مع الله من جهة، وأخلت بتعاقدها مع الشعب من جهة أخرى، فالحرية الدينية لم تكن هبة ممنوحة من الحاكمين، بل هي حقاً طبيعياً، ومن ثم فهي حق أساسي للعدالة السياسية؛ والنتيجة الثورية لهذا المطلب كانت تقسيم إقليم الشمال "اتحاد أوتريخت" سنة 1579م، الذي أدى إلى تأسيس جمهورية جديدة أصبحت في القرن السابع عشر أنموذجاً يقتدى به في سياسة التسامح، وقد مثلت هذه المطالبات الحق الطبيعي للحرية السياسية والدينية، وربط المطالبة بالتسامح بحق جذري في العدالة السياسية؛ بمعنى ربطها بمطلب أساسي يتعلق بالتبرير العام لممارسة السلطة السياسية.

وفي هذا السياق، نلقي نظرة خاطفة على تصور جديد للتسامح مخالف للتصور الذي كان سائداً من قبل، ارتأينا تسميته "بالتصور القائم على الاحترام المتبادل" وهو تصور بموجبه يحترم المواطنون الديموقراطيون بعضهم البعض، بوصفهم مواطنين متساوين فيما بينهم سياسياً وقانونياً، بالرغم من الاختلافات الجذرية التي تطبع تصوراتهم الدينية والعرقية بخصوص شكل الحياة الخيرة والصحيحة؛ وفق هذا المعنى يتبع التسامح منطق التحرر بدلاً من منطق الهيمنة والتسلط.

يمكننا أن نرى الرواية القاتمة من سياسة التسامح سارية المفعول حتى الآن، بحيث لم تتجاوز بعد مستوى الممارسة والخطاب في المجتمعات المعاصرة التي تقول عن نفسها ديموقراطية، فالتسامح الذي طبع المرحلة السابقة لا زال حاضراً في مجتمعاتنا المعاصرة؛ وإن كان بأشكال ديموقراطية مختلفة، فالسلطة المتسامحة في المجتمعات المسماة ديموقراطية تُظهر صيغة ما يسمى الأغلبية الديموقراطية، أو الديموقراطية القائمة على حكم الأغلبية، في الجانب الآخر اتخذت العديد من السلطات مبدأ ضمان الحرية والاعتراف بالتعددية، ونبذت القمع والاضطهاد، حيث آمنت أنه لا يمكن إنتاج رعايا موالين، هم في نهاية المطاف رعايا خاضعونقابلون للانفلات في أية لحظة، وكمثال نختم به: أتباع الجماعات الدينية الذين لم يتم الاعتراف بهوياتهم بشكل إيجابي وأصبحوا موضع ملاحقة، أو أولئك الذين حظيت هوياتهم باعتراف جزئي في سياسات التسامح التي تنتهجها السلطة، قاموا بتشكيل هوية معينة في نطاق الصراع وعبره، وأنتجوا سلطة بداخل السلطة لتشكيل هوية خاصة معارضة غالبا ما انتهت بالصراع والحرب.

أخبار ذات صلة