أيمن البيماني
يُعتبر محمد علي باشا هو المؤسِّس الحقيقي للدولة المصرية الحديثة إبّان القرن التاسع عشر الميلادي، والذي ظهرت نواياه جليًّا في اللحاق بركب الدولة الأوروبية الحديثة آنذاك، وهذا ما سنناقشه لمقال أسامة عرابي "الشريعة والسلطان: الدولة الأوربية الحديثة نموذجًا لمصر محمد علي"، والمنشور في مجلة "التفاهم".
إنَّ العلاقة بين المواطن الممثّل للحداثة الأوروبية وبين سلطتها وقانونها هي علاقة شائكة ومعقّدة، فهي علاقة قانونية في المقام الأول، ويدلّ عليها إشهار نابليون -القرن التاسع عشر- مجموعة من القوانين التجارية والجزائية والشخصية والمدنية...وغيرها؛ فقد ظهر شعار قانونيو نابليون: "لا يحقّ لأي مواطن التذرّع بعدم معرفة القانون"؛ مما يعني أنَّ على المواطن الإلمام بالقوانين والأنظمة التي تحكم علاقته مع المواطن الآخر من جهة، ومن جهة أخرى مع الدولة ومؤسساتها، مع التحذير من ادّعاء الجهل بهذه القوانين؛ الأمر الذي يُسهِّل عمل الشرطة والقضاء.
إنَّ حضارات مصر واليونان والرومان والعثمانيين قد سبقت نابليون في تطبيق المنظومة العقابية، ولكن نابليون وقانونه تفرّد عن أي مثيل سابق من حيث نجاعة وفاعلية التقنيات الجزائية والقانونية وعمليات البحث والضبط والتقصّي.
المُؤرِّخ الفرنسي ميشيل فوكو عبر كتابه "التأديب والعقاب: نشأة السجن"، يرى دور شوكة القانون الأوروبي الحديث في امتداد سلطة المركز القهرية على جميع القاطنين داخل الدولة وخارجها باستخدام تقنيات حديثة في المراقبة والتحكّم بالاعتماد على العلم والمعرفة والتقنيات الحديثة والأساليب العلمية؛ حيث يرى فوكو أنّ نشوء أسواق رأسمالية جديدة، وسيطرة طبقة النبلاء على الاقتصاد، وانحلال المجتمع الاقطاعي، كلّها عوامل أدّت إلى تربية قانونية للفرد الأوروبي تماشيًا مع متطلّبات تلك المرحلة من الصناعة والرأسمالية الحديثة، وهو ما نجحت فيه الشبكة المعرفية وأدّت دورها بامتياز.
لقد سيطَر الرأسماليون الصناعيون والتجّار على جميع مفاصل الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية؛ مما أثّر على روح المواطن الأوروبي، والتي هي في الحقيقة نتاج السلطة السياسية المعرفية الجديدة، والتي تظهر فيها كيف أصبح الجسد الأوروبي خاضعًا لعلاقات التسلّط والنفوذ.
إنَّ السجن والحبس كان أهمّ مظاهر شبكة التسلّط والتحكّم الأوروبي بالمواطن، كما يرى فوكو أنّ نشأة تلك السجون وأساليب الحبس ومظاهر التعذيب والاقتصاص أمام الجمهور كانت تعصف بحقوق أساسية للفرد،وشكّلت بعد ذلك ثورة جديدة في علاقة الجماهير (المواطن) بالسلطة القانونية المتسلّطة. مع النزوح المتسارع من الريف إلى المناطق الصناعية لآلاف النازحين؛ كانت السلطة السياسية أهمّ سبيل للمراقبة والتأديب لضمان السلم المجتمعي وتأديب الأعداد الكثيرة من الأجساد في فعلها اليومي.
أشارَ الفيسلسوف الألماني كانط -أواسط القرن الثامن عشر- إلى مبدأ ومفهوم حرية الفرد في الدولة الأوروبية والتي أساسها الخضوع للنظام السياسي، متجاهلًا أنّها طاعة قسرية عمياء مصير مخالفها العقاب. وحسب مفهومه، فإنَّ الحرية المعاصرة هي أحد الخيارين: طاعة السلطة والقانون الواجبة على كل فرد، أو عدم الطاعة ومصيره العقاب الجسدي والمادي، وهو ما لم يذكره كانط في تعريفه للحرية. أما البراغماتي والفيلسوف البريطاني (بنتام) فيُعرّف الواجب القانوني للمواطن الحديث: "أنّ واجبي هو كل أمر يفرض القانون عليّ إطاعته، فإذا لم أفعل يعاقبني القانون"، وهو تعريف شافٍ وشفاف لغياهب الحرية الحقيقية للمواطن الأوروبي آنذاك.
أمّا مُنظّر علم الاجتماع الأوروبي (إيلياس)، فهو يرى أنّ إخضاع عدد كبير من الأجساد على التنسيق والمراقبة في المصانع -مثلًا- وأنّ فعل كل شخص يعتمد على دقة وفعل الشخص الآخر، ما هو إلا أمر يجبر الفرد على التحكّم بحركاته وتصرّفاته بشكل دقيق؛ لذلك يذهب إلى أنّ هذا النوع من البنى النفسية اللاواعية ورقابة الذات ما كان ليتمّ لولا سلطة المركز السياسية والقوانين الرقابية على كافة النشاطات الحيوية في الدولة القومية المعاصرة.
حدثتْ في مصر مجموعة من التغيّرات في طبيعة العدالة الجنائية وقانون العقوبات كما حدث سابقا في أوروبا، وفي فترة قصيرة نجح محمد على باشا في نقل البنى العسكرية والقضائية والجزائية من أوروبا إلى مصر. حيث ظهر التحوّل القضائي في مظهرين أساسيين: الأول في النصوص القانونية وظهور القانون الجنائي الجديد لمصر عام 1829م، وتمثّل الثاني في ظهور محاكم نظامية -مجالس- يديرها موظفون تابعون للدولة لتطبيق القوانين الأوروبية الوافدة. وقد واصلت المحاكم الابتدائية -الشرعية- عملها على قضايا الدين كالقتل والقذف، ولكن المجالس النظامية الجديدة كانت أكثر شمولًا وصلاحية من محاكم الشرع، حتى أنّ القضية التي لا يستطيع قاضي الشرع الحكم فيها تُحال إلى المحكمة النظامية لإعادة النظر والتدقيق فيها بمقاييس مخالفة عن مقاييس محاكم الشرع.
وقد أثّرت ثلاثة اعتبارات في تلك البنية الجنائية الجديدة لمصر؛ وهي:
1- تحكّم الأجهزة المركزية بحركة الناس ونشاطاتهم.
2- إعادة تعريف العقوبة بأنّها إصلاح وتقويم للسلوك وليست عقابًا.
3- تطبيق مقاييس ومفاهيم وأسس جديدة في الإجراءات القانونية من حيث الاعتقال والمحاكمة والإثبات الجرمي والدليل الجنائي.
تميَّز القانون الجزائي لمصر محمد علي بمجموعة من الفروقات عن القانون العثماني الساري آنذاك؛ ومنها:
أ- تحديد عقوبة كل جرم، بينما القانون العثماني يحدد طبيعة الجرم ويترك الاجتهاد للقضاة في تحديد العقوبة.
ب- حصر العقوبات في الجلد والإعدام، بينما القانون العثماني يقرّ مجموعة متنوّعة من العقوبات كبتر الأعضاء، والوسم بالحديد وغيرها، كما هو الحال في الإسلام بتنوّع عقوبات السارق والزاني والقاذف وغيرهم.
إنّ المتتبّع للنصوص الجزائية الجديدة يُلاحظ هدف تلك القوانين في عقلنة وترشيد علاقة الأفراد بالسلطة، ورأت السلطة أنّ عقلانية العقوبة محفّزة لولاء الأفراد للدولة؛ لما لها من أثر في خضوع الفرد للسلطة الحاكمة؛ حيث إنَّ صدور الحكم على الجاني بالعقوبة المنصوص عليها في القانون لن يجعل له مجالًا للاعتراض والشك بعد ذلك. وفي العام 1853م، تمَّ إقرار القانون العثماني للعقوبات في مصر، وتم في الأقاليم إنشاء محاكم نظامية للنظر في جرائمها؛ لذلك جرى توجيه الوعي المصري الدارج أنّ قاضي الشرع والعدالة الإسلامية مُنزّه عن الخطأ؛ لأنّ القوانين الجديدة كانت غريبة عن الشرع والموروث الفقهي الإسلامي.
لذلك؛ فإنّ هذه التغيرات القضائية والجزائية كان لها الأثر في العمل اليومي لجهاز الشرطة في مصر، والذي يشير إليه الباحث المصري خالد فهميأنّ وجود قوانين وأطر قضائية لكل جريمة وعقوبتها المستحقة ألزم مؤسسة الشرطة على تقديم نتائج تحقيقاتها إلى المجالس القاضية بشكل مستمر، كما استعانت بالتقنيات والطب الشرعي -كمثال- في تحقيقات أسباب الوفاة، ووضعت سجلات للمطلوبين ممَّا عزز قدرتها على حفظ النظام.
نعرض هنا قضيتين لتوضيح الصورة بين محاكم الشرع والمجالس النظامية الجديدة:
1- عام 1860م، قدّمت أم دعوى ضدّ متهم بقتل ابنتها لدى قاضي الشرع، وقام قاضي الشرع بإبطال الدعوى بسبب اقتصار الشهود على قاصرتين وعدم وجود شهود بالغين في مسرح الجريمة، في حين قام قاضي المجالس النظامية بحبس المتهم 3 سنوات استنادًا على تقرير الوفاة والذي أكّد استخدام القوة وشهادة القاصرتين. وهنا يظهر المجالس النظامية كطرف قضائي مستقل عن الشرع.
2- قضية تدافع زوجتين لرجل إحداهما حامل ممَّا أدى لإجهاض جنينها. في محاكم الشرع لم يجزم القاضي أنّ سقوط الزوجة الثانية وإجهاض جنينها كان بسبب دفع الزوجة الأولى لها، وبالتالي إبطال الدعوى، فيما حكم المجلس النظامي بحبس الزوجة المتهمة شهرين بسبب وجود تقرير المستشفى أنّ سبب الإجهاض كانت نتيجة وقوع جسم الزوجة الحامل.
يوضِّح الباحث خالد فهمي أنَّ استعمال الطب الشرعي والتقنيات الحديثة في القانون المصري لم يخالف الشريعة الإسلامية، بل أدّى إلى تعزيز الشرع وتم اعتباره كتكملة للشريعة الإسلامية.
إنَّ هذه التحولات في مصر، وانتقال النظام الجزائي المعتمد على قضاة الشرع في القرن التاسع عشر، إلى قضاة المحاكم النظامية التي تستمد أحكامها من قوانين أوروبية؛ أدّت لتحوّل ميزان القوى الاجتماعية من المؤسسة الدينية إلى السلطة المركزية، وتراجع الولاء للرموز الدينية.