تحديات الإصلاح الديني

سلطان المكتومي

قبل بضع سنوات، نظم اتحاد طلاب الكويت بأمريكا مناظرة عنوانها الدولة العلمانية والحل، وقد أتوا بشخصيتين؛ إحداهما تمثل التيار الديني، والأخرى التيار العلماني. كانت المُنَاظَرة حامية وما شدني فيها عبارة مهمة قالها صاحب التوجه الديني ردًّا على التوجه العلماني؛ يقول:"في عالمنا الإسلامي لا يوجد صراع أو صدام مباشر مع السلطة الدينية أو مع النص الديني، بل كان صراعا مع الاستبداد، والعلمانية جاءت كردة فعل من تجارب مثقلة من تسلط الكنيسة ومع النص الديني الذي يخدمها؛ الذي يعتبر العلم والبحث العلمي جريمة وكوبرنيكس مثال على ذلك". لكن هنا تغافل عن حقيقة صادمة وهو أن الاستبداد في عالمنا الاسلامي خلف نصوصا تخدم السلطة السياسية وتبرر قمع كل من يخالفها مثل النص "...وإن ضربك وأخذ مالك".

مقال محمد الحداد "الإصلاح الديني في أعمال المعاصرين" -في مجلة "التفاهم"- أشار لثلاثة محاور؛ هي: تحديد المفهوم ومناقشته وصحته، والاتجاهات والشخصيات التي يمكن الاتفاق على تصنيفها تحت هذه العبارة، وخصص الجزء الثالث لما يمكن أن تفتح عليه هذه العبارة من إمكانيات توصيف واقع متطور ومعقد يتواصل إلى يومنا هذا.

قديما، استبشع بعض ما ذهب إليه حجة الإسلام الغزالي عندما وضع لأحد كتبه عنوان "إحياء علوم الدين"، فقالوا: وهل ماتت هذه العلوم حتى يحييها؟ وكذلك يطعن بعضهم اليوم على عبارة "إصلاح ديني" بدعوى أنها قد تستنبط فكرة أن الدين أصابه الفساد ويحتاج إلى إصلاح، أو أن في الدين جوانب تحتاج إلى الإصلاح والتقويم. ولم يكن هذا مقصد الذين أطلقوا هذه العبارة في الأصل، وإن ظهرت في السنوات الأخيرة كتابات محدودة جدا يمكن أن تفهم بهذا المعنى؛ لكن أن تحرف عن مقاصدها الأصلية، ولا يعد ذلك سببا للطعن فيها. وقد اشتهر كتاب الغزالي سالف الذكر، وأصبح مرجعا من أكبر المراجع التراثية، فهل تصبح عبارة "الإصلاح الديني" مستساغة في الاستعمال الإسلامي العام؟

الواقع أن الاعتراض عليها لا يقف عند حدود العبارة؛ فثمة اعتراضان في المضمون يستند إليهما موقف الرفض: أحدهما يرى أن العبارة تمثل إسقاطا للتجربة المسيحية الغربية على الإسلام، على أساس الإصلاح الديني قد ارتبطت بشخصيات مسيحية غربية، مثل لوثر وكالفن. وقد يذهب أصحاب هذا الاعتراض إلى أبعد من ذلك فيقولون: إن "الإصلاح الديني" قد قسم المسيحية إلى ما يشبه أن يكون دينين متعارضين: الكاثوليكية والبروتستانتية، ودفع إلى حروب ضارية بينهما، وإن إسقاطه على الإسلام يهدد بمصير مماثل ويضرب وحدة الإسلام وتماسكه.

أما الاعتراض الثاني، فيرى أن عبارة "إصلاح ديني" تتضمن أن يكون كل إصلاح في العالم الإسلامي مرتبطا بالدين، أو مصاغا صياغة دينية، في حين أن المطلوب إحداث إصلاحات سياسية واقتصادية ومعرفية بعيدا عن المجادلات الدينية.

وتجاوز الكاتب الاعتراض اللغوي بوصفه اعتراضا شكليا، فإنَّ الاعتراضيْن على المضمون يحتاجان مناقشة معمقة، ويقول لا يمكن الإنكار أن عبارة "الإصلاح الديني" قد دخلت الاستعمال العام استحياء من التجربة الأوروبية؛ لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنها عبارة مسقطة؛ فقد تكون فكرة مشتركة بين عدة أديان، كما هو شأن فكرة التوحيد أو الحساب بعد الموت، ويمكن أن نفترض أن يكون الإسلام والمسيحية وأديان أخرى أيضا تواجه تحديا مشتركا يتمثل بين الدين والعصر الحديث، وأن تكون المسيحية سابقة في هذه التجربة؛ لأنها واجهت التغيرات الكبرى التي فرضتها الحداثة قبل الأديان الأخرى، ومن هذه التغيرات الانتقال من الشكل الإمبراطوري في الحكم إلى الدولة الوطنية، ومن العلم القديم إلى العلوم الحديثة الرياضية والتجريبية والإنسانية، ومن مجتمعات قائمة على التراتبية إلى تنظيمات اجتماعية تتساوى فيها الأقليات والأغلبية والرجل والمرأة، ولم يعد فيها سادة وعبيد أو خاصة وعامة.

بيَّن الكاتب أهمية الإصلاح بحكم متغيرات العصر واختصرت منها هذه المقتطفات، لكن الأهم من ذلك هو تحديد هذه العبارة لتكون مصطلحا ومفهوما. وهنا، يجد الكاتب اختلافا أساسيا بين مستعمليها؛ فبعضهم يرى أن المعنى معروف منذ القدم، والآخر يراه معنى حادثا ومخصوصا.

 

الإصلاح الديني بالمعنى الحديث

كلمة "إصلاح" قديمة؛ فهي أولا وبالذات كلمة قرآنية وردت في عشرات الآيات القرآنية، إضافة إلى أحاديث وآثار تحدثت عن تجديد الدين على رأس كل قرن، لكنها تتميز في العصر الحديث بمعنى خاص؛ إذ لم تعد تعني العودة إلى الأصول فحسب؛ وإنما أيضا التلاؤم مع العصر، بحكم أن التحدي الحضاري الجديد المطروح حديثا أمام المسلمين هو تحد مزدوج، ولم يعد داخليا بحتا.

ومنذ العصور القديمة، استقر توزيع الأدوار أو التمييز بين المجال السياسي والمجال الديني؛ إذ كان المطلوب من الحاكم أن يتصرف حسب المصلحة، ومن الفقيه أن يفتي حسب التقليد(المذهب). وفي الغالب يتفادى الحاكم معارضة التقليد معارضة صارخة؛ بينما يسعى الفقيه إلى تطويع التقليد كي لا يتعارض مع ما يراه الحاكم مصلحة. وقد يحدث أحيانا تعارض بين الوظيفتين لأسباب موضوعية أو في إطار تشبث كل طرف باستقلاليته وعلويته ووظيفته. كان المال وقرار التعيين بيد الحاكم؛ ولكن الجمهور تحت سيطرة الفقيه، بذلك استقر ضرب من توازن القوى لا يسمح للحاكم بالهيمنة المطلقة على الشرعية الدينية، ولا للفقيه بأن يكون في موقع المعارض للحاكم. ولقد أصبح هذا التمييز شديد الوضوح مع الإمبراطورية العثمانية حيث جسدت وظيفة "الصدر الأعظم" (رئيس الوزراء) السطلة السياسية المدنية(لذلك لا يشترط في تعيينه للمنصب كفاءات دينية؛ بل يمكن أن يكون غير مسلم)، بينما جسدت وظيفة المفتي الرسمي أو شيخ الإسلام السلطة الدينية.

ويقول الكاتب إنَّ هذا التوازن ظل قائما نسبيا -رغم أزمات كثيرة- طالما كانت المصلحة لا تقتضي مراجعات كبرى لما يتضمنه التقليد، بحكم استقرار المجتمع ذاته على تنظيمات مألوفة منذ قرون؛ لكن هذا التوازن أصبح معرضا للخلل عند تغيرات العالم الحديث.

وأخيرا..يقول الدكتور علي الوردي: الأفكار تتبدل بتبدل الأيام والذي يريد أن يبقى على رأيه كمن يريد أن يحارب سلاحا ناريا بسلاح عنترة بن شداد. الإصلاح ضرورة هذا العصر والعالمالإسلامي ليس فقط متخلف على الصعيد السياسي وإنما أيضا على صعيد اللغة العربية. أيعقل أن المعاجم العربية القديمة ما زالت المرجع الأساسي في الوقت الحاضر ولا يوجد معجم حديث يواكب العصر! الإصلاح الديني في اعتقادي يبدأ من إصلاح النظم السياسية، والدول المتقدمة بدأت بإصلاح نظمها السياسية. ولا يمكن الفصل بين الإصلاح الديني والإصلاح السياسي؛ فالاستبداد الديني جاء بعد الاستبداد السياسي.

أخبار ذات صلة