علم الكلام الجديد في الفكر الإسلامي

سيف الوهيبي

 

وجد الفكر الديني نفسه بعد عقود من الجمود والانغلاق غريباً في سياق إنساني يتقدم ويتطور بسرعة لا متناهية، ولقد دفع احتكاك المسلمين بغيرهم من الثقافات مع انبلاج عصر المعلومات، إلى الحاجة لوضع حد لحالات الركود التي سيطرت على أغلب علوم الدين الإسلامي منذرةً بتلاشيها وخبوتِها، منها نناقش في المقالة "علم التفكير الكلامي" الذي يعد أحد أقدم العلوم الإسلامية، وقد دعت الحاجة للتجديد والتحديث بهذا العلم لإعادة طرح القضايا الدينية، ومحاولة رد الاعتبار لأهم مسائلها أو بمعنى آخر البحث في أصول الدين وعصرنتها بما يقتضيه الوقت الراهن المختلف، لاسيما بعدما مر على جغرافيا الحضارة الإسلامية عديد من الاستعمارات وذلك بعد سقوطها وتضعضعها.نناقش ذلك فيمقال الكاتب محمد توفيق المنشور بمجلة التفاهم بعنوان " تجديد الدرس الكلامي المعاصر ".

 

في أصل علم الكلام

في جملة البدء لا يمكننا تعريف علم الكلام كعلم مضبوط المعالم واضح الأركان؛ نظراً لكثرة تسمياته وتعدد تعريفاته وتداخله مع علوم أخرى، ويمكن للناظر في مدونات العقائد الإسلامية بمختلف أطيافها الفكرية، أن يلحظ هذه التعددات في التسميات فيعترضه أحياناً مصطلح الكلام الإسلامي أو الفقه الأكبر، وأصول الدين، وعلم التوحيد، وعلم العقائد، وعلم النظر والاستدلال، وعلم الإيمان...إلخ، بالإضافة إلى تداخل علم الكلام بصفة كبيرة مع علوم إسلامية وعقلية أخرى كعلم إلهيات الفلسفة،أما في المجمل فهو العلم الذي يقوم على بحث ودراسة مسائل العقيدة الإسلامية بإيراد الأدلة والبراهين ثم الحجج على إثباتها، ومناقشة الأقوال والآراء المخالفة لها، وإثبات بطلانها، ودحض ونقد الشبهات التي تثار حولها ودفعها بالحجة والبرهان.

 

تاريخ التجديد الكلامي

بامتداد التاريخ مر علم الكلام بإصلاحات كبيرة وعميقة على مستوى العقل الكلامي وكان على أكثر من صعيد بدءاً بأبيحنيفة النعمان (80هـ/699م) الذي فيما يبدو أنه باني أركان هذا التأسيس باعتباره أول من طور دلالة الفقه المهتم بالفروع، إذ يذهب إلى إلى اعتبار الفقه "معرفة النفس ما يجوز لها من اعتقادات، وما يجب عليها، أما ما يتعلق بها من اعتقادات فهو الفقه الأكبر، وما يتعلق منها بالعلميات فهو الفقه"، ولقد تطور هذا المفهوم بعدها مع الفارابي (260هـ/874م) فتحول " من معرفة العقائد على أدلتها بالكلام إلى صناعة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملة وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل "، ثم الغزالي (450هـ/1058م)، وغيرهم الكثير من العلماء مثل ابن باجة وابن رشد وأبي بكر الكندي...الخ، واستمرت رياح البحث والتجديد في علم الكلام - بيد أن النشاط الكلامي مع مرور الزمن - توجه صوب الداخل، حيث تخاصم متكلمو الاسلام وشهد علم الكلام انقسام المنتسبين إليه، بل وبلغ الأمر حد تكفير بعض الفرق بعضاً، حتى بات علم الكلام مساحة لمزيد من التشتت والتفرقة والضياع.

 

الحاجة إلى التجديد

إنّ البحث في بعث وتجديد معالم أصالتنا وخصوصيتنا الحضارية يكاد يكون متعيناً على المشتغلين بالفكر الكلامي والفلسفي، ولقد بدأ هذا الهاجس يسيطر على مطالع يقظتنا ونهضتها الحديثة، وهو يزداد إلحاحاً بعدما تماهت الفوراق والتبعية والاستقلال الحضاري، وبات الموقف البديل هو موقف التنازلات التي أصبحت تلامس حدود وثوابت الهوية، ووضع القومية موضع الاستفاهم، والعروبة موضع التشكيك،والإسلام رديفاً للرجعية.أضف إلى ذلك الكم الهائل من الأفكار والنظريات الفلسفية والكلامية الغربية التي نواجها في حقبتي الحداثة وما بعد الحداثة،وفي مثل هذا الموقف يصبح التجديد بمثابة طوق النجاة لنا ووسيلة الثبات قبل عملية الانسحاق الحضاري والضياع الفكري والثقافي، بدليل انخفاض معدلات التنمية وازدياد مستوى الفقر، وغير ذلك من معوقات التقدم والاستقلال.

 

 

أهداف التجديد في علم الكلام

من المهم التنبيه والتذكير بأن الهدف المرجو لدى الحريصين على هذا العلم هو بث الروح فيه، وتزويده بالوسائل التي تعينه على الاستمرار في أداء وظيفته، وتخليصه من العوائق التي تجعله عاجزاً عن المواجهة، وإذا كان علم الكلام القديم قد تسلح بالفلسفة والمنطق في مواجهة خصومه، وإذا كان قد قام بدراسة أفكار المخالفين وعقائدهم كي يطَّلع على موطن ضعفها، فإن علم الكلاميحتاج إلى أن يتصل اتصالاً وثيقاً بالواقع الفكري والعلمي الذي يشتبك معه ويحاوره ويرد على مقولاته ونظرياته، في محاولة لشرح وتبيّن المفاهيم الإعتقادية بالصورة المناسبة القادرة على احتواء استيعاب المضمون إلى أبعد الحدود، ونقله بأمانة ودقة، ومن ثم تحجيم وتقليص الأخطاء والشبهات التي يمكن أن يسببها سوء أو قصور الخطاب، والعرض الكلامي. ويأتي هنا دور تحديد المصطلح السليم الذي يبعد عن حدوث التدخلات، بحيث يعكس بوضوح ما يريد أن يحكي عنه بأقل قدر من الانفلات والتضيَّق، ومن ثم محاولة إثبات المفاهيم الاعتقادية وإقامة الأدلة والبراهين عليها من خلال توظيف مختلف أنواع الإثباتات المعتبرة قياساً واستقراءً على المستوى العقلي والنصي أو التاريخي.

 

خاتمة

لم يجر في علم الكلام الجديد تأسيس موضوعات لم يكن لها سابق بحث وحضور في الساحة الفكرية والإسلامية دائماً، بمعنى أن أصحاب الاقتراح لم يقوموا بتأسيس مجموعة من القضايا والمباحث الكلامية التي ليس لها سابق وجود وإنما نظموا مسائل علم الكلام الجديد على أساس عملية تجميع لأبرز الموضوعات التي ظهرت أمام المفكرين المسلمين في الآونة الأخيرة، ومست المسائل الفكرية والعقائدية الجذرية من دون أن تكون محصورة بعلم معين كعلم الفقه أو الأصول مثلاًبحيثتكون مسألة أصولية أو فقهية بطبيعتها، وهذا يؤدي بطبيعته – إذا لم تجرِ عملية تحديد مسبق لموضوع هذا العلم- إلى تحويل علم الكلام إلى علم تجميعي لمسائل متفرقة وهموم مختلفة، تغدو مع الأيام خليطاً متناقضاً من موضوعات واهتمامات لا رابط بينها، وهذا قد يؤدي على المدى البعيد إلى افتقاده المنهج الواضح المحدد، ومن اللازم الإشارة هنا إلى أن العناوين والموضوعات الكلامية الجديدة  ذات تشعبات عديدة وذات قابلية للقراءة في أكثر من جانب، فمن الضروري السعي لتحديد المحور الذي يعُنى بعلم الكلام واستيعابه ونقده ليتقدم ويتطور.

أخبار ذات صلة