مراحل كفاح محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه

سيف الوهيبي

 

أوكِلَ للرسول محمد صلى الله عليه وسلم من ربه جل في عُلاه مهمة بعث هذه الأمة وانتشالها من جديد وسط مجتمع نال منه الجهل ما ناله وأخذت القبلية منه شكلاً ومنهاجا، وقد بُعث صلى الله عليه وسلم وسط أعتى قبائل العرب حينها، وعلى جماعات من ملل وديانات متعددة، فكيف سيمهد صلى الله عليه وسلم الطريق لدين جديد وغريب على العرب لم يشهدوا له من قبل مثيلا. سنناقش فيها مقالة الكاتب محمد الناصري بعنوان "الصور الأربع لحياة المسلمين في العهد النبوي" مقسمة على أربع مراحل، مكة قبل الهجرة، الهجرة إلى الحبشة، الهجرة للمدينة، ومكة بعد الفتح.

 

مكة قبل الهجرة

مثلت الدعوة السرية من مكة الانطلاقة الحقيقية لإنشاء الجيل الأول في الإسلام، الذي ابتدأ بألصق الناس برسول البشرية وهم أصدقاؤه وآل بيته وكل من توسم فيهم خيرا، واستمرت الدعوة بتمهل وحذر وبانتقائية معينة في اختيار من يثق فيهم رسول الله ويرتبط معهم بروابط وثيقة؛ وذلك لتجنب الصدام المبكر مع الحُمْس (قبيلة قريش مثلما يطلق عليها في الجاهلية وذلك لشدة تمسكهم بدينهم ووثنيتهم وشجاعتهم فهم لا يطاقون)، ولأنّ الدعوة ما زالت وليدة لا يؤمن بها إلا القليل، والصدام مع أعتى قبائل العرب في تلك المرحلة المبكرة يعد إيذاناً بضياعها؛قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنظيم أصحابه على شكل خلايا صغيرة وجماعات حتى يتجنب مسألة التجمعات الكبرى التي تلفت الانتباه وتستفز الجمهور، وكان الرجل إذا تعلم شيئاً من الدين تولى أمر جماعة من رجلين أو أكثر يعلمهم في حلقات تعليم خاصة، واستمرت الدعوة في مكة سراً لثلاث سنواتمعتمدة في المقام الأول التركيز على البناء العقدي والإيماني للسابقين الأولين، حتى جاء أمر الله لرسوله بأن يصدع بالحق وأن ينادي الناس بأمره، فنزل قوله تعالى: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ".

 وقد تعرض الرسول وأصحابه لمختلف أشكال الإيذاء والتعذيب من قبل الفئة الحاكمة من قريش، يضاف إلى ذلك الحصار الاقتصادي لمدة ثلاث سنين وما تبِع ذلك من تجويع حتى كان المسلمون يأكلون الخبط وورق الأشجار، ورغم إسلام رجال محاربين وشجعان أمثال حمزة بن عبدالمطلب وعمر بن الخطاب وانضمامهم لصفوف المسلمين، فضل قائد الدعوة اللجوء إلى أساليب ووسائل سلمية  في المقابل، كالاستفادة من قوانين المجتمع المشترك في الحماية والجوار، والتواجد في المحافل العامة ودعوة الوافدين إلى مكة باعتناق الإسلام وإن اقتضى الأمر باللجوء لمكان آمن عن طريق الهجرة، كما استفادت الجماعة المسلمة الأولى من العناصر المشتركة بين الإسلام واليهودية والنصرانية، خاصة وأن بقايا النصارى الموجودين في مكة شهدوا لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة؛ وبذلك شعر أهل مكة على الأقل أن اليهود والنصارى والمسلمين في معسكر واحد.

 

 

الهجرة إلى الحبشة

لم يجد المسلمون وسيلة تقيهم مضايقة قريش سوى الهجرة، فكانت الهجرة الأولى في الإسلام لتحقيق رسالة الله سبحانه وتعالى في وحدة عبوديته ورفعة لقيم الدين، فكان في مقدمة المهاجرين : عثمان بن عفان، ورقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة وزوجته، والزبير بن العوام...... حتى اجتمع في أرض الحبشة بضعة وثمانون رجلاً، إلا أن قريشا لم يهدأ لها بال حتى تبعت المسلمين حاملين معهم الهدايا المختلفة إلى النجاشي وبطارقته تقربا منهم بأن يرفض هؤلاء المسلمين في جوراه ويسلمهم إلى أعدائهم، فلما وصل الخبر إلى النجاشي رفض أن يسلم أحداً من المسلمين حتى يكلمهم ويحاورهم في شأن دينهم الجديد، فدار بعدها الحوار المشهور بين النجاشي وجعفر بن أبي طالب – متحدثا بلسان المسلمين – الحوار الذي اتخذ من الهدوء شكلاَ والبعد عن التوتر ميزاناً مع ضرورة الاعتراف بالآخر والتواصل معه عبر جسور الحوار.

الهجرة إلى المدينة

  شكلت محطة الهجرة إلى المدينة منعرجا تاريخيا مهما لهذه الأمة ولتاريخ الإنسانية جمعاء، فيها تحولت الجماعة المسلمة المهاجرة إلى مرحلة تأسيس الدول وقد ابتدأ الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم بوضع الأسسوالقوانين لبناء المجتمع من جديد مركزاً على الجانب الاجتماعي والسياسي، ووضع القواعد للتحول من الفكر القبلي إلى فكر الجماعة، مستبدلاً العلاقات القبلية بالعلاقات الإنسانية، فأقام مبدأ المؤاخاة بين المهاجرينوالأنصار، وحث عليه السلام بكتابة وثيقة السلام التي من شأنها حل المشكلات والنزاعات بالطرق السلمية؛ لتنظيم الحقوق والواجبات بين مكونات المجتمع المدني من المهاجرين والأنصار (الأوس والخزرج)، واليهود، والوثنين، هذا وتضمنت وثائق وعهود السلام بنوداً مثلت شكلاً حديثاً من أشكال المدنية ونمط التعايش القائم على التعددية والتنوع في إطار المساواة والعدالة وحق المواطنة الكاملة لأهل الطوائف غير الإسلامية.

لقد نصت الصحيفة أو الدستور مثلما يسميه البعض على أن المسلمين وغيرهم من أهل المدينة يشكلون "أمة واحدة" لكل طائفة حرية الاعتقاد وإبداء الرأي، والتعددية والمساواة وغيرها من القيم ذات الدلالات والأبعاد الحضارية، حيث لم يضع الإسلام أساسا للانتماء، بل جعل الأساس هو الالتزام بشروط العقد الاجتماعي ولعل أهمها "تحقيق الأمن"، ثم لحِقت هذه الصحيفة وثائق وعهود عدة كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدد من التجمعات اليهودية في شمال شبه الجزيرة العربية بعد غزوة خيبر، منها: أمان ليهود عاديا من تيماء، وأمان ليهود أيلة، ومعاهدته صلى الله عليه وسلم مع أهل مقنا، والمعاهدة مع أهل جرباء وأذرح، كل واحد من هذه العهود يحفظ للآخر حريته ويحترم خصوصياته العقدية والسياسية والاقتصادية، مما حفظ لغير المسلمين حق ممارسة حياتهم كاملة غير منقوصة. ولأن دعوة الإسلام ليست ليثرب فقط بل للعالم أجمع؛ لم تتوقف الدعوة عند اليهود فحسب، وإنما امتدت لتشمل النصارى وفيهم العهد الذي أبرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران، وشملت الدعوة المشركين المسالمين كما هو شأن صلح الحديبية، انتقالاً إلى غيرهم من القبائل العربية مثل عهد قبيلة بني ضمرة، وعهد قبيلة بني غفار وغيرها الكثير.

 

مكة بعد الفتح

كانت الجماعة المسلمة بقيادة النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم تنتظر اللحظة المناسبة للرجوع لمكة التي رُسم لها لتكون مرجع المسلمين ومعقلهم؛ فجاء خرق قريش لميثاق صلح الحديبية بعد اصطفاف قريش لجانب قبيلة "بني بكر" ومدهم بالسلاح والعتاد ضد قبيلة "خزاعة" التي هي ضمن حلفاء المسلمين، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين بالاستعداد للخروج لفتح مكة وذلك في العاشر من رمضان في العام الثامن من الهجرة، بعدها باتت الجماعة المسلمة على أرض الجزيرة العربية قد تحققت تقريباً، وبدأ الناس بالدخول للإسلام أفواجاً وجماعات، وقد وجه النبي محمد صلى الله عليهم وسلم بعدها بإرسال الرسائل إلى الملوك والأمراء في أطراف الجزيرة، فكان من بين الذين أرسل إليهم النجاشي ملك الحبشة، والمقوقس ملك مصر، وكسرى ملك الفرس، والقيصر ملك الروم، كما بعث برسائل أخرى إلى الكثير من الأمراء المتفرقين في مختلف المناطق وقد أسلم منهم الكثير، وعاند القليل.

 

 

أخبار ذات صلة