سيف الوهيبي
قام منهج دراسة الأديان عند العامري والبيروني على أسس نقدية وموضوعية بعيداً عن التعصب والتعميم، فهما لم يستغلا النقد للانقضاض على الأديان الأخرى، بل كانت دراستهما موضوعية عقلانية هادئة، لا تعبر عن شيء سوى الإنصاف العلمي، ولم يعرف الفكر الغربي -مقارنة الأديان - كمنهج علمي في مجال الأديان، إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في الوقت الذي اشتغل به العلماء المسلمون منذ العصور الوسطى، وبَرَزَ أبو الحسن محمد بن أبي ذر يوسف العامري، ومحمد بن أحمد الخوارزمي الملقب بأبي الريحان وشهرته البيروني في مُقدمة من استخدم منهج المقارنة وطبقه بصورة علمية. نناقش تأريخ العامري والبيروني للأديان في مقال الكاتبة "منى أحمد أبو زيد" المنشور بمجلة التفاهم بعنوان "العلاقات بين الأديان عند العامري والبيروني".
نظرة العامري والبيروني للأديان
في بدايات القرن الرابع الهجري ظهرت نظرة جديدة تبناها مؤرخو علم الأديان تجاوزت نظرة أهل الحديث في الكتابة التاريخية، حيث أدرك أصحاب تلك النظرة عزوف أهل الحديث عن استيعاب أديان وفكر الأمم الأخرى، وبرزت هذه النظرة عند العامري والبيروني فاتجها إلى دراسة الأديان السابقة ومقارنتها مع الدين الإسلامي، ولم يعد المؤرخون هم الفقهاء والمحدثين، وإنما كانوا مفكرين تناولوا أحوال الأديان والمجتمعات البشرية، وبيان ما عرض لها من تبدلات وتحولات ودراستها دراسة علمية نقدية؛ لمعرفة أديانها وعرض عقائدها، ومحاورة أصحابها.
كانت النظرة السائدة - قبل العامري والبيروني- لتأريخ الأديان هي نظرة أهل الحديث؛ إذ بدأت الدراسات التاريخية متصلة بالدراسات الحديثية، وكان أسلوب الرواية هو أسلوب الحديث شكلاً ومبنى، وأكدت تلك النظرة للتاريخ على أنه جزءٌ من العلوم الشرعية، وهو علم مساعد لعلم "الجرح والتعديل"، كما استفاد علم التاريخ نفسه من علم الحديث في تقييم المؤرخين، وقام التاريخ في أساسه للتأريخ للسيرة والمغازي والتراجم والفتوحات، ونظر إليه على أنه "علم ضبط الروايات، والتحقق من مصداقية أسانيدها وتواترها؛ لكشف التزوير والكذب فيها"، ونظر إلى التاريخ على أنه علم يخدم العلوم الدينية الأخرى ويتممها ويوضحها، خاصة وأنَّ العديد ممن اهتم بالتاريخ من الأوائل كانوا من المحدثين والمفسرين أو الفقهاء؛ لغرض التدوين والحفاظ على الشريعة، وقد جمع العديد من العلماء بين التاريخ والعلوم الإسلامية لإدراكهم حتمية التلازم بينهما.
ما يميّز منهج العامري والبيروني
1- ترك النقل والاعتماد على العقل
يضع العامري العقل معياراً للحكم والمقارنة بين الأديان، فالعقل أمر ثابت مشترك بين بني البشر، ووجه العامري بضرورة الاعتماد على العقل في دراسة الأديان أن يبتعد عن الميل العاطفي المتحيز الذي يفسد رؤية الواقع والحقيقة. وهذه الخطوة اعتمدها البيروني أيضاً عندما نادى بأهمية التحرز من إسار العاطفة الدينية، والتخلص من ثنائية المذموم والمحمود في دراسة الأديان، ودراستها دراسة موضوعية، إلا أن التجرد المطلق مطلبٌ عسير؛ فالباحث ذاته وثقافته وعقيدته تظهر آثارها في دراسته.
2- الالتزام بالموضوعية
تميَّز منهج العامري في الحديث عن الأديان بموضوعية وصدق، فهو لم يبالغ في التهوين من شأنها، بل حاول إشاعة روح التسامح تجاه الآخر بصفة عامة، والآخر الديني بصفة خاصة، يتضح ذلك من خلال حرصه على الاعتراف بشرعية غير المسلم ودراسة أديانه، في وقت دأبت فيه أغلب الأدبيات الفقهية الإسلامية على رفض الآخر وإقصائه برغم اعتراف النص القرآني بحقوقه. التزم البيروني الموضوعية؛ إلا أنه رأى أن أغلب من اهتم بالمقارنة بين الأديان، إما متعاطف معها أو متحامل عليها، فحرص على التزام الموضوعية في عرض الأفكار والمعتقدات، وتجرد من التمييز العنصري، والتزم منهج الصدق في الإخبار عن عقائد الهنود، فوصف كتابه: "تحقيق ما للهند"، بأنه ليس لنصرة دين على آخر أو ملة على أخرى، بل هو كتاب يرصد الحقيقة فقط، وهو كتاب حكاية ومقارنة ومقاربة.
3- النزول إلى الميدان
لم يكتف العامري والبيروني بجمع المعلومات من الكتب المسطورة، بل انطلقا إلى ميدان البحث للدراسة والمعاينة، وقد تحقق هذا للعامري مبكراً، فقد ولد في بلخ التي كانت حينها مركزاً ثقافياً ودينياً، ضم أطيافاً متعددة من مختلف الديانات والمِلل، كما تنقل العامري بين مراكز ثقافية مختلفة، مثل بخارى والري وبغداد وهي من أهم مراكز العلم والتجارة في القرون الوسطى، ومن خلال تلك الجولات استطاع العامري أن يتعرف عن قرب على عقائد أهل الديانات الأخرى وأن يحاورهم.
واعتمد البيروني منهج المعاينة والمشاهدة في تأريخه للديانات، وعاب على علماء المسلمين أنهم لم يدرسوا عقائد الهنود دراسة معاينة، إنما اعتمدوا على الخيال والأساطير، وتعاملوا معها حسب المنقول من الأخبار، واستنتج البيروني أهمية المعاينة والمشاهدة حيث عاش مدة طويلة بالهند، يقال: أنها تتراوح بين ثلاثين أو أربعين عاماً، استطاع فيها أن يدرس أحوالهم، ويعرف تقاليدهم، ويقف على أساليب حياتهم، وتعلم لغاتهم، فقد أتقن البيروني اللغة السنسكريتية، كما تعلم بعض اللغات الأصلية، مثل اليونانية والفارسية إلى جانب العربية والعبرية.
أوجه المقارنة التي أعتمدها العامري والبيروني
1- الألوهية والنبوات
بيَّن العامري أن الإسلام تميز عن الأديان الأخرى بعقيدة التوحيد الخالص، التي تنزه الله - سبحانه وتعالى- عن التشبيه الذي اعتقده اليهود، والتثليث الذي اعتقده النصارى، والضد - إله النور وإله الظلام - الذي يعتقده المجوس، والشرك الذي يعتقده عبدة الأصنام، ويخلص العامري إلى أنه لم يجد أهل دين حريصين هلى تقديم المقدمات العقلية لاستخراج النتائج النظرية في استخلاص توحيد الله من المعاندين ومغالطة المغالطين، ما عني به متكلمو الإسلام.
لم يسلم أهل الأديان من الغلو والتقصير في موضع الأنبياء، أما الغلو فهو ما ادعته النصارى من ألوهية عيسى عليه السلام، وأما التقصير فوصف اليهود لأنبيائهم وتكذيبهم، وقتل بعضهم بغير وجه حق. ويشير البيروني إلى تقارب الديانات الهندية والمسيحية في موضوع الرسل، واختلافها اختلافاً بيناً في العقيدة الإسلامية؛ إذ أن الرسول في اليهودية والمسيحية يوصف بأنه (ابن) الإله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا، كمت وصف اليهود (عزيرا) بأنه ابن الإله، ووصف النصارى عيسى بذلك، أما الديانات الهندية فقد اختلفت في موضوع النبوات، فبعضها يصرح بوجود الأنبياء، وبعضها ينكرها أصلاً.
3- الملائكة
يؤكد العامري أن عقيدة المسلمين في الملائكة من أصح العقائد الإيمانية بين الأديان، فقد كان المشركون يقولون إن الملائكة بنات الله، وادعى المثنوية والمجوس أن الآلهة القديمة بعد موتها عادت في صورة ملائكة تستحق العبادة، وادعى اليهود أنَّ الملائكة يجوز على الواحد منهم أن يرتكب الكفر؛ فيستحق المسخ من الله. كما أشار البيروني إلى الاعتقادات الدينية والفلسفية الفاسدة حول الملائكة؛ إذ ينسب لبعض فلاسفة اليونان الاعتقاد بأن الكواكب هي الملائكة، وأقاموا نظريات وتأويلات بأسماء الملائكة.
4- الكتب السماوية
بيَّن العامري ميزة القرآن الكريم على الكتب السماوية السابقة من عدة وجوه، تعود إلى إعجازه في صورة الخطاب، ونظم الألفاظ، وفي تأليف المعاني، فالكتب السماوية وإن كانت كلها جليلة القدر؛ إلا أن ما استجمعه القرآن هو شيء باَيَن جميع الكتب. وقد عرض البيروني الكتاب المقدسي عند الهنود وهو (الفيدا)، ومعناه العلوم بما هو غير معلوم وهو كلام نسبوه إلى الإله، ويتلوه البراهمة من غير تفسير، وقد اختلطت فيه مجموعة من الأساطير اليونانية القديمة.
