اللازم الأخلاقي والمواطنة العالمية

عبد الله الجهوري

لا ريب إن جعل الرواقيون – ومن قبلهم أرسطو وأفلاطون وسقراط - من الأخلاق العمود الأول لفلسفتهم، حين رأوا –الرواقيون- الفلسفة ممارسة للفضيلة، ولا غرو إن تنبهت البشرية المتحضرة إلى أهمية الأخلاق باعتبارها ثالث ثلاثة أقسام في الفلسفة بجانب علوم الطبيعة، والجدل (المنطق) لما لها من أهمية في تحديد مبادئ الخير والشر وبالتالي تقنين العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان. وفي هذا الصدد يقدم الكاتب العماني صادق جواد اللواتي رأيه حول القيم والمشكلة الأخلاقية المعاصرة. ويستهل صادق جواد مقاله باعتبار القرن السادس زمن الوعي بالآخر المختلف بالنسبة للإنسان الغربي "المسيحي"، ويعزو الفضل في ذلك إلى الاكتشافات المتعلقة بإثبات لا مركزية الأرض ودورانها حول الشمس حيث يقول "منذ ذاك، بدأ عالمنا الأرضي يرتسم في مدرك أهل الغرب على نحو أدق وأوضح كجسم كروي سابح في فضاء شاسع، تتشاركه سكنا –شرقا وغربا، شمالا وجنوبا- أمم بشرية مختلفة الأعراق والديانات والثقافات واللغات" لكن الكاتب يبدي استغرابه أن هذا الاكتشاف العلمي وما تلاه من اكتشافات كان يجدر بها أن تجعل الإنسان أكثر قدرة على تنظيم شؤونه بيد أن ما حدث هو العكس حيث "أدى هذا التبلور العلمي لدى أهل الغرب إلى نزعة سلطوية سرعان ما تجسدت في ظاهرة الاستعمار"  فانطلق الغربي يجوب العالم ويبسط سيطرته على شعوبه يسلب أموالهم ويصادر حرياتهم ويستعبد ذرياتهم، ويرى الكاتب أن هذه النزعة جعلت الغربي يبتعد عن ديانته المسيحية وذلك عبر تبني أيدولوجيات "علمانية قليلة الاكتراث بالشأن الإنساني ككل". كما يشتبه الكاتب أيضا في وجود علاقة طردية بين تقدم العلم وارتقاء الإمكانات من جانب وازدراء الأديان من جانب آخر، وما كانت العولمة –برأيه- إلا مصدر قلق جديد لدى الإنسان في جميع مواطنه.

ويرى صادق جواد أن الشعوب الشرقية تنبهت إلى خطورة الأمر لذلك كانت أكثر تمسكا بدياناتها وثقافاتها، لكن هذا لم يمنعها من الإفادة من العلوم والتطبيقات التكنولوجية دون تحفظ مما ألهمها في التوفيق بين المدنية الحديثة والجذور الثقافية والدينية. وفي المقابل فإن الشعوب الغربية استفاقت "على صدمة ذاتية" نتيجة فك الارتباط بما أسماه اللازم الأخلاقي حيث "استفاق الغرب على إدراك فظاعة الدمار الذي أحدثته الحربان العالميتان اللتان خاضتهما مجتمعاته الممكّنة بالعلم الحديث واقتداراته العملية بطواحينهما الفاتكة، في غضون 12 عاما (١٩١٤-١٩١٨) ثم (١٩٣٩-١٩٤٥) أزهقت الحربان أرواح سبعين مليونا من الناس، وألحقتا دمارا واسعا ومنهكا بكافة مرافق الحياة"  ولم يتوقف الأمر عند هاتين الحربين بل امتد ليشمل الحرب الكورية لثلاث سنوات ثم حرب فيتنام ونضال التحرر الوطني في الجزائر. كل هذا برأي الكاتب منشأه غياب اللازم الخلقي الذي أطلق الزمام لأطماع الإمبريالية الحديثة، التي أوشكت بدورها على تفجير حرب عالمية ثالثة هذه المرة بأسلحة أكثر فتكا دموية كالأسلحة البيولوجية والكيماوية والنووية. آثار التطور البشري لم تلحق الضرر بالإنسان نفسه فحسب بل تجاوزت ذلك إلى التعدي على البيئة الطبيعية أنتجت اضطرابات مناخية مكلفة وتلوثا يصعب القضاء عليه.

بعد كل هذا العرض الملفع بنظرة سوداوية يتساءل الكاتب عمَّا يمكن فعله للحد من كل هذه الأعراض الجانبية الملازمة لحركة التمدن الغربية، فيقول "ما هو سبيلنا تضامنيا إلى منع تراجع مسالك الوئام في الأوطان، ومنع انهيار مسالك التعاون بين الدول؛ كي لا يستمر الوضع الإنساني في الانحدار للأدنى" وينطلق صادق جواد من فكرة المشترك الإنساني ليقترحها حلا يمكن من توفير بيئة عالمية حاضنة للسلم عبر إشاعة القيم العالمية القائمة على السلم والوئام والتعاون. ويدعو الكاتب في السياق نفسه إلى تجاهل ما هو سيئ في الحضارة الغربية لأنه ما من أمة وفي حضارتها جانبان يمثل أحدهما الجانب المشرق بينما يمثل الآخر الجانب المظلم من البشر.

إن المشكل الرئيس وجوهر القضية برأي الكاتب هو مشكل أخلاقي فهي "تكمن في تغافلنا المشين عن منظومة المبادئ والقيم التي نعيها نظرياً كأساس لازم لسلامة الوضع الإنساني ونتجاهلها عملياً في التطبيق" فالكاتب يؤمن بضرورة وضع ميثاق أخلاقي وإيجاد السبل التي تكفل سيادة هذا اللازم الأخلاقي. ومن تحقيق هذه الغاية يجب الانطلاق من المشترك الإنساني المتمثل في وحدة المبادئ والقيم، "فإن المبادئ والقيم التي بها يتقدم حال الناس وبغيابها يتراجع، واحدة وثابتة أيضاً: بتعبير آخر، النفس الواحدة التي انبثق منها زوجها، وانبثت منهما نفوس كثيرة، ذكور وإناث، خُلقت لتحيا أو تهلك، تتقدم أو ترتكس، بذات الأسباب. بفعل هذه السنة الجامعة لحال الإنسان، المهيمنة على مسيره ومصيره، سادت أمم حين عملت بالمبادئ والقيم الإنسانية فأوجدت بذلك معطيات حياة طيبة، وبادت حين تجاهلتها أو تنكرت لها من بعد علم، فنقضت غزلها وورث ما أنجزت قوم آخرون" ويمضي الكاتب يسوق الأمثلة فالعدل واحد بين الأمم تستشعره وتحن إليه فور وقوع الظلم، كما أن المساواة قيمة عالمية يرنو إليها كل إنسان يشعر بالتمييز، وكذلك الديمقراطية بإزاء الاستبداد. لذا يقترح الكاتب أن تكون القيم مرجعا يحتكم إليه المختلفون. لكن حتى تكون هذه القيم والمبادئ مرجعا لا بد من توافر شروط عدة بها، يسوقها صادق تباعا. فالأول أن تكون الفكرة إنسانية أصيلة تتجاوز الفوارق الشعوبية كالعدل، والثاني أن تكون الفكرة مطلقة النفع كالمساواة مبدأ، والثالث أن تكون هذه الفكرة مدركة في وعي الناس لا مجال للجدل حولها، ورابعا أن تكون هذه الفكرة قابلة للتطبيق.

ويستدرك الكاتب لينوه إلى أن هذه المبادئ والقيم وإن كانت في كتب وأحلام الشعوب إلا أنها تغيب تطبيقا على نحو مشين وغير مشرف، بيد أنَّ الكاتب ينهي المقال تاركا الكثير من الأسئلة خلفه تنتظر الإجابة فاتحا المجال على مصراعيه لمن أراد أن ينقب عن صيغة حقيقية تجعل الفرد متقيدًا باللازم الخلقي إبان خطواته الحضارية دون الاعتداء على الآخر. وما أرى هذه الاقتراحات إلا أحلام رجل طيب أراد للعالم أن يهنأ ويعيش في سلام لكن هذه الأحلام ستجد من يُقدرها ويحترمها أكثر ليس في الواقع المعاش وإنما في جمهورية المثل لدى أفلاطون ومحبيه. هذا لا يُقلل من الفكرة ولا من شأنها بقدر ما يذكر الجانب الآخر المظلم من القضية.

أخبار ذات صلة