عبد الله الجهوري
لو كنت مؤرخا، لصنفت سيف الدولة الحمداني في قائمة الشخصيات العربية الأكثر دهاءً، ليس لمواقفه السياسية، وصراعاته العسكرية مع البيزنطيين والأخشيد، لكن لأنّه استطاع أن يرصع بلاطه ذائع الصيت بأهم علماء عصره وأدبائهم، كالمتنبي وأبي فراس الحمداني، وابن نباته المصري وأبي الفرج الأصفهاني وأبي نصر الفارابي مما ساعده على تخليد اسمه على مر الزمان. ولربما دون مبالغة يعد الفارابي أهم العلماء الذين ارتادوا بلاط سيف الدولة، مقدما ما يربو على ثلاثين رسالة، وقد وصفه صاحب وفيات الأعيان بأنّه "أكبر فلاسفة المسلمين"، كما وصفه وقدمه صاحب كتاب طبقات الحكماء على الفيلسوف الكندي، واصفا إياه بأنّه "بزّ جميع أهل الإسلام في المنطق". وقد لقي الفارابي اهتمام المحدثين من العرب والمستشرقين أيضا، وألفت حوله الدراسات وكتبت الكتب، وإنها لسانحة أن نستعرض مقال أولريخ رودولف في مجلة التسامح (الفارابي وأصول الدين) في الأسطر القادمة بشيء من التفصيل.
بداية؛ ينوه رودولف على أهميّة كتاب الفارابي (مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة)، الذي لقي عناية منقطعة النظير من قبل الدارسين، لكنّه يرى أنّ هذه العناية فشلت في شرح وفهم (مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة) فلسفيًا رغم أنّها استطاعت تثبيته مرجعًا معتمدا. وعليه فإنّا في بقية مقاله سننتظر من رودولف أن يشرح الكتاب فلسفيا كما قال. وقد بدأ بالعنوان الذي يعتبره الدارسون دالا على أنّ العمل مخصص بالدرجة الأولى للسياسة، مشرحًا استخدام الفارابي للفظتي (آراء) و(مبادئ). وقد خلص إلى أهميتهما بحد زعمه. فاستعمال (آراء) توحي أنّ الكتاب سيتناول موضوعا عاما مما قد يثير مجموعة من المستمعين، فيما استعمل (مبادئ) ليثبت أنّه يتجاوز المستوى البلاغي الحجاجي إلى إعطاء مبادئ فلسفية لكل الأسئلة التي يثيرها العمل. (ملاحظة: النسخة التي اطلعت عليها من الكتاب تحمل عنوان "آراء أهل المدينة الفاضلة" تقديم ألبير نصري ونشر المطبعة الكاثوليكية، أي أنّها لا تشتمل لفظة مبادئ).
ويستند كاتب المقال إلى الروايات التاريخية ليؤكد اعتناء الفارابي بكتابه فقد ألفه في البداية في تسعة عشر بابا، لكنه قلّصها إلى ستة بعد مرور سنوات. وقد كانت الفصول كالآتي: 1- القضية الأولى: ويحوي الكمال، الوحدة، المعرفة. 3- العالم: كل الأشياء بما فيها العدل، العالم وحالته اللامستقرة، وبنيته ونشوء الفساد فيه. 4- الجنس البشري: وفيه الروح والملكات، والجسم وأعضاؤه، والفكر والخيال والنبوة. 5- المدينة الفاضلة: ضرورتها، بنيتها، مؤسسها (رسول، فيلسوف) الحكام، الثواب والعقاب بعد الموت، الفلسفة والدين. 6-آراء مواطني المجتمعات المتخلفة. وقد تجاوز الباب الثاني دون ذكره.
ويرى الكاتب أنّ النص تناول المواضيع متسلسلة مترابطة، لكن أولريخ رودلف، وفي منتصف المقال تقريبا يعاود طرح الأسئلة الابتسمولوجية نحو: ما نوع المبادئ؟ عمّاذا يبحث الفارابي؟ ما هي الأهداف المعرفية التي يود تحقيقها، ما العوامل التي دفعته لاختيار هذه المواضيع؟ ويعدنا بطريقة ضمنية أن يجيب عن هذه الأسئلة لاحقا معتبرا أن الإجابة عنها لم تتم بطريقة مرضية.
ويقول رودلف أن علاقة ما تربط كتاب المبادئ بالمواضيع المتناولة في أصول الدين، وللتأكد من هذا الزعم يقترح علينا مقارنة كتاب الفارابي بكتاب لأبي الحسن الأشعري، (اللماع في الرد على أهل الزيغ والبداع)، ثم بعد ذلك يستشهد بكتاب التوحيد لأبي منصور الماتريدي، ثم يورد كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، لأبي المعالي الجويني رغم أنّ الجويني عاش في القرن الخامس الهجري، إلا أنّ هذا لم يمنع الكاتب من الاستشهاد به لأنه (ما زال على العادة الإسلاميّة القديمة)، وبعد أن أورد لنا موضوعات الكتب المتقدم ذكرها، يبين لنا أهم الموضوعات المشتركة وهي: العالم، والله، والنبوة، وحياة ما بعد الموت؛ مدلا على علاقة وثيقة بين الأعمال الفلسفية واللاهوتية، وأنّ الفارابي استقى بنية كتاب المبادئ من كتاب أصول الدين.
ولا يفوت رودولف التنويه إلى تقسيم الكتاب على قسمين مختلفين يعنى الأول منهما بالآراء ذات الطبيعة النظرية، بينما يهتم القسم الثاني بالآراء المتعلقة بالقضايا العملية. ويندرج تحت الآراء النظرية كل ما يتعلق بوصف الله، ووصف الروحانيين وحركاتهم، ونشأة العالم وبنيته، وخلق الأجسام، والعدالة الإلهية، وعلاقة الأشياء المادية بالإله والروحانيينن والجنس البشري خلقه وحركته وقدرته على التفكير والنبوة. أمّا الآراء العملية فيندرج تحتها الأنبياء الملوك الرؤساء وتقارير لما قاموا به من خير وشر.
ورغم هذا التشابه الكبير الذي يثبته رودولف بين اللاهوت وكتاب الفارابي، فإنّه لا يجزم بلاهوتيته، لأنّ فيه حديثا عن البراهين والكليات وهو من اختصاص الفلسفة لا من اختصاص الدين الذي لا يطالب بإعطاء براهين في كل الأحوال، ولأن الجزء الأخير من كتاب الفارابي تضمن تأثره بالفلسفة وعلى الأخص جمهورية أفلاطون المثالية. لكنه وفي خلاصة حديثه (رودولف) يرى أنّ الفارابي قدم كتابا لاهوتيا بصبغة فلسفية متأثرا بالنسق البنيوي السائد في عصره وبالفلسفات التي استحوذت على تفكيره، بل بالغ في جملة الختام ليصف مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة بالطبعة لكتاب أصول الدين، وهو بذا يقع في التناقض حيث صنفه بأهم الكتب في البداية قبل أن يعود ويؤكد أنه مجرد طبعة "جديدة" لأصول الدين. لا أحد يستطيع إنكار الصبغة الفلسفية لمبادئ آراء المدينة الفاضلة، حتى رودولف نفسه، أمّا المواضيع التي رآها رودولف مشتركة مع كتب الأشعري والماتريدي والجويني فهي في الحقيقة جزء لا يتجزأ من مدينة الفارابي الفاضلة، مدينته التي جمعت بين أرسطو معلمه، وبين الفلسفة وأصول الدين. فكيف يخرجه من إطار التفلسف؟ النبوة على سبيل المثال موضوع استحوذ على تفكير الفلاسفة العرب، وحاولوا تقديم تفسير منطقي لها، حتى وقعوا في إشكالات مع المحيطين بهم، حيث تباين الفلاسفة في تفسيرهم لظاهرة النبوة، فالرازي لا يعترف بخوارق العادات على الأغلب، بينما يؤمن بها الفارابي، لكنّه منزلة أقل شأنا من الفلسفة، بينما يرى الكندي تقديمها لما لها من أهمية. لا يهمنا النتيجة في هذا السياق بقدر الاهتمام بمعالجة ظاهرة النبوة وغيرها من الظواهر المتعلقة بعوالم الإنسان معالجة فلسفية.
وخلاصة الحديث أنه ما زالت كتب الفارابي تحتاج إلى قراءة فيلولوجية واعية تنفض عنها الغبار، وتدرس آليات التفكير والتأليف عند علماء المسلمين في القضايا التي تمس الحياة، وتشف عن وجع معرفي وتوق للحقيقة حرك أقلامهم وعقولهم، أمّا مسألة هل كتاب الفارابي نسخة من أصول الدين أم لا فهو أمر سهل وأوضح مما يُظن. لقد كان الفارابي بحق واسطة عقد فلاسفة المسلمين الأوائل.
