العولمة: مركب العالم الحديث

عبد الله الجهوري

لا تحظى العولمة بسُمعةٍ جيدةٍ في أروقة الثقافة العَربية والإسلامية، وذلك لاعتباراتٍ عدة، منها ما يتعلَّق بالدين الذي يضع شروطًا وحدوداً من أجل توفير بيئة مُجتمعية آمنة للأفراد والأسر، ومنها ما يتعلق بالعولمة نفسها، التي جلبت معها صفات غير مُحببة كالفردانية وإلغاء الحواجز والانفتاح المُطلق. لكنها رغم ذلك استطاعت فرض نفسها على الساحة العالمية متجاوزة كل الأنظمة الثقافية والدينية. ويبدو أنَّ الأمر لا يقتصر على المُسلمين فحسب فقد سعى القسيس الأمريكي دوغلاس براون في مقالة له بعنوان (القيم والأخلاقيات المُشتركة في المجتمعات الإسلامية والمسيحية في عصر العولمة) إلى البحث في نظرة الأديان الإبراهيمية لا سيما الإسلام والمسيحية باعتبارهما الأوسع انتشارا والأكثر قرباً إلى العولمة وتأثيراتها.

في مُستهل مقالته سعى دوغلاس براون إلى سرد إيجابيات العولمة وقد وسمها "بالتطورات التي طرأت على عالمنا" مثل ظهور الأسواق الحرة، وسهولة الحصول على منتوجات متنوعة، وآلية الحصول على المعلومة وغيرها من حسنات العولمة الكثيرة والمتنوعة، وهو ما اعتبره الأصل فيها، لكن دوغلاس يرى أن للعولمة نتائج ثانوية (سلبيات) مثل إلغاء الحدود وتمييع الهويات الوطنية والاستعمال الزائد لأدوات التواصل. وهنا نقطة مُهمة يجدر الإشارة إليها وهي أنَّ القسيس دوغلاس براون لا يتخذ موقفاً سلبيًا من العولمة وإنما يقف على مسافة معتدلة تمكنه من النظر إلى القضية من زوايا مُتعددة تتيح له الاطلاع بعمق على موضوع المناقشة. وقد حاول دوغلاس أن يربط بين ديانتين توحيديتين تعدان الأكثر انتشارًا، هما المسيحية والإسلام باعتبارهما تواجهان التحديات نفسها، وقد وعد القارئ بمُحاولة تعريف العولمة.

ولا يفوت دوغلاس التنويه إلى أنَّ بعضا مما جاءت به العولمة موجود سلفًا عند الحضارات القديمة، مثل التبادل التجاري، والارتباط العالمي، وقد ذكر الكاتب بعض الأدلة الأركيولوجية على وجود تبادل للسلع والمواشي يعود إلى 6000 سنة! وهنا يستنتج الكاتب وجود العولمة منذ القدم بيد أن وتيرتها تسارعت في العشرين سنة الأخيرة قبل كتابته للمقال.

إنَّ خطر العولمة الأكبر يتمثل في تأثيراتها على الأسرة والمجتمع، ولإيضاح المسألة يستشهد الكاتب بعالم الاجتماع دونكان تمز الذي يرى أن "الهوية الفردية تنتج غالبًا عن التفاعل الإنساني وجهاً لوجه من خلال عكس صورة الذات والعلاقات مع الآخرين، ومن خلال التَّخيل الذاتي للتصورات المُجتمعية والتقييمات. وليس هناك ما يُمكن أن يعوض المشاركة في نظام أسري واسع والمجتمع المحلي الأولي لتشكيل الهوية. بالإضافة إلى تشكيل الهوية؛ فالأسر والمجتمعات تقوم بدور الإرشاد، وتصحح وتمنع في بعض الأحيان بعض سلوكيات الأفراد". بعد هذا الاستشهاد يتساءل براون، لقد كان المعول على النظام الأسري والمجتمع المحلي، لكن تأثيره الآن بدأ يتقلص بحدة، حيث بدأ الشباب في تخصيص وقت أكثر للجلوس خلف الشاشات والاستمتاع بشبكات الإنترنت وبرامج التلفاز، فمن سيقوم مقام الأسرة والمجتمع؟ إن المجتمع انفلت خارج حدود الزمان والمكان ببساطة. إذ تمَّ تجاهل الحدود الجُغرافية والخصوصية المحلية والإقليمية كما تمَّ القفز على الزمن وأتاح للفرد حُرية اختيار مجموعة التواصل التي توافقه هو، فالفرد ليس ملزمًا بحدود مجتمعه وأسرته وقوانينهما مما أنتج ما أسماه ولمان بـ"الفردانية الاجتماعية" فالفرد يعيش في مُجتمع خارج وسطه المحيط بل في مجتمع اختاره هو بنفسه. وعن تأثير التلفاز يستشهد الكاتب بدراسة عالم الاجتماع ميشيل تربر حول هذا الموضوع إذ لاحظ أنَّ: "التأثير الجوهري لجهاز التلفزيون على الثقافة، يتمثل في الإدمان على مشاهدة البرامج التلفزيونية، بغض النظر عن الجودة، وتصبح جزءا من الروتين اليومي...وتجعل أفراد الأسرة لا يتواصلون مع بعضهم البعض بكثرة" لقد تفطن الكاتب إلى تأثير التلفاز على المدى البعيد حين يصبح جزءا من الروتين اليومي بغض النظر عن المحتوى، وبالتالي يشغل حيزا من الوقت على حساب التفاعل الاجتماعي الحي. وقد أثبتت التقارير صحة الفرضية السابقة حيث "أدى تزايد نسبة مشاهدة التلفاز واستعمال الإنترنت في أمريكا إلى تراجع ملحوظ في المشاركة الأمريكية في المجتمع المحلي".

وبالعودة إلى الحديث عن المشترك بين المسيحية والإسلام واتحاد نظرتي الديانتين إلى القضايا، يذكر الكاتب مسألة إثارة وسائل الاتصال للخوف في المجتمع بسبب انتشار الأخبار عن الجرائم وكذلك خوف بعض الدول من هيمنة القوة المسيطرة "الأمريكية" رغم أن الخوف لا يتفق مع مبادئ الديانتين الداعيتين إلى الطمأنينة والثقة بالخالق المُدبر. وهنا يبدأ الكاتب بسرد بعض النصوص المقدسة لدى كل من المُسلمين والمسيحيين، ولم أستطع إلى الآن الربط بين طبيعة الديانتين الداعيتين إلى الطمأنينة حسب قوله وبين موضوع المقالة.

وتحت عنوان فرعي وسمه الكاتب بالفردانية والاستهلاكية وتأثيرهما في المجتمع، ناقش القسيس خطورة الخضوع للسوق والانجرار خلف ما نعته بتأليه فكرة سوق الاقتصاد الحر، ويبين الكاتب خطورة الأمر على حياة الفرد والمجتمع معاً، حيث يصبحان ضحية بينما الأصل أن يكون الاقتصاد أداة في أيديهم. وينبه الكاتب إلى أن العولمة يعدها الكثير من مؤيديها كقانون طبيعي لا كإرث إنساني؛ لذا وجب التنبه وإعادة مسار الأخلاق إلى الواجهة ولن يتأتى هذا إلا بتكاتف أبناء الديانات الإبراهيمية والدعوة إلى إنشاء نظام أخلاقي يحكم هذه الفوضى حيث "يمكن للقيم الإسلامية والمسيحية المشتركة، التي تم الكشف عنها من خلال الارتباط بين الديانتين، أن تلعب دور التمحيص الأخلاقي ويكون لها دور تصحيحي". ويبرر الكاتب سبب اختياره للإسلام والمسيحية للقيام بهذا الدور بأنهما ديانتان عالميتان فمحمد صلى الله عليه وسلم أرسل للناس كافة، وكذلك المسيحية جاءت من أجل الجميع فلا تختصان بعرق ولا إثنية ولا قومية.

وفي ختام حديثه، ورغم هجومه القاسي، فإنَّ القسيس يرى أن العولمة ما زالت في طور النمو وستصل إلى أبعد القرى في المناطق النائية، لكن هذا لا يعني الاستسلام والخضوع المُطلق لها، بل يجب تصحيح المسار فالديانات الإبراهيمية بحكم عالميتها وانفتاحها على العالم وقدرتها على استيعاب الجديد ومُتطلبات العصر، مؤهلة لتقديم نموذج أكثر إنسانية يوفر دعمًا للعولمة. دعماً يجعل بني البشر يستفيدون من العولمة دون تقديسها، ويجعلهم يقدمون تقييمات نقدية ويشاركون بحيوية في خلق نظام عالمي يسهل الارتباط بين الأمم ويقر بضرورة الارتباط بالآخرين في مجتمع ابتدائي ينبني على تنشئة ودعم البيئة المحيطة بالفرد.

 

أخبار ذات صلة