سلطان المكتومي
إن السنوات الأخيرة التي شهدها العالم الإسلامي والعالم العربي خصوصا عرفت الكثير من التطورات على الصعيد السياسي والثقافي، وقد لمست هذه التطورات في فترة الربيع العربي التي نادت الجماهير بالحرية والديمقراطية وغيرها من القيم التي عني بها الغرب المعاصر. ويناقش مقال منشور في مجلة التفاهم حمل عنوان "التثاقف ومستقبله في مجتمعات المسلمين.. وجهة نظر إسلامية" هذه التطورات والوعي الحاصل بين الشعوب العربية على مدار الأجيال الأخيرة.
استحضر الكاتب توجهين رئيسين قد سيطرا على الباحثين العرب في العقد الأخير؛ الأول عني بالقيم والمقاييس الأخلاقية في مجتمعات المسلمين، وأما التوجه الثاني فعني على الخصوص بإدراكات الديمقراطية في البلدان العربية والإسلامية. وأشار الكاتب إلى أن هذين التوجهين إنما ينطلقان من قول شاع بأنّ هناك مشكلة حقيقية ذات أبعاد سياسية وأخلاقية ودينية بين المسلمين (وبخاصة العرب) والديمقراطية، بوصفها "قيمة"، وبوصفها ممارسات وطريقة في بناء الأنظمة السياسية والمؤسسات، ففي حين تصل أفكار المجموعة الأولى إلى أن المشكلة موجودة في "الثقافة" في صورة تضاد بين الشريعة والحريات السياسية ومؤسساتها، وإن تكن قوية وسائدة؛ فإن المجموعة الأولى - والتي تدعي المدنية - تصل إلى نتيجة معاكسة، وترى أن المجتمعات العربية والإسلامية ليس في وعيها عقبات أمام الديمقراطية، والمشكلة ظاهرة في الأنظمة السياسية المسيطرة. أما المجموعة الثانية فعادة ما تقترح لتجاوز المشكلة تقوية مؤسسات وجهات المجتمع المدني، وتشجيع برامج التربية على الديمقراطية، وترى أن المشكلة يمكن حلها بتطوير الأنظمة أو تغيرها، للوصول إلى أنظمة للتداول على السلطة وإقرار الحريات الأساسية، والمشاركة الواسعة والمتطورة. أطال الكاتب في تلخيص التوجهين؛ ليوضح أن الثورات العربية الجارية في 2011، لم تصدق نتائج البحوث والمطالعات الجارية على مدى السنوات العشر الأخيرة؛ فالذين أكثروا من الحديث عن معوقات الديمقراطية في الدين والثقافة والسياسة والنظام الدولي، لم تصدق آراؤهم؛ لأن الثورات الديمقراطية انطلقت فاستقطبت الجمهور كله في حركية زاخرة، دون تساؤلات عن مشروعية الديمقراطية أو سلطة الشعب. ومن وجهة نظري لا يوجد مشكلة حقيقة في ذلك بحكم أن الجماهير في الغالب نادت بالقيم الإنسانية من حرية وديمقراطية، وعرفوا كيف تطبق في بلدانهم. وتبقى المشكلة الحقيقية في الأنظمة القمعية التي لا شك تحاول تعميق الفوارق بين التوجهين. ويجزم الكاتب أنه لم تكن هناك مشكلات في النظر إلى الديمقراطية باعتبارها قيمة أو ممارسة أو الأمرين معا. أما أصحاب المذهب الثاني الذي رأى العقبة في السلطات القائمة وليس في الجمهور؛ فإنّه عاد فأكد على الذاتية والخصوصية في حال العرب، والتي تقتضي ديمقراطية عربية إذا صح التعبير. ونحن نجد أن الثورات التي حصلت في العالم العربي لا تملك هذا الهم؛ أي التفرقة بين ما هو عالمي أو أجنبي.
وفي ضوء هذه الملاحظات النقدية، يكون علينا العودة إلى موضوع "التثاقف" وماذا يعني نحن العرب والمسلمين في القرن الواحد والعشرين. ولدينا في هذا الشأن تجربتان وسيطتان أو كلاسيكيتان، وتجربة أو تجارب حديثة ومعاصرة. وأنا أقصد بالتجربتين الوسيطتين: تجربة بغداد في التواصل مع الحضارات القديمة والمعاصرة فيما بين القرنين السابع والثاني عشر الميلاديين؛ حيث جرى التواصل مع الحضارات القديمة واليونانية والهندية والفارسية من طريق الترجمة في شتى العلوم والفنون والفلسفة. أما التجربة الثانية آنذاك فهي التجربة الأندلسية على مدى سبعة قرون، وهي تجربة تثاقف كبيرة من خلال الترجمة (يوناني ولاتيني -عربي -لاتيني) ومن خلال العيش معا؛ أي بين المسلمين والمسيحيين بتلك البلاد. وقد كانت التجربتان ناجحتين بحدود؛ لكنهما انتهتا نهاية مأساوية. أمّا تجربة بغداد فانتهت بالحروب الصليبية التي ضربت العلاقات بين الشرق والغرب، وأحالت كل تواصل إنساني بين الطرفين (المسيحي والمسلم) إلى معاناة وعذاب وتكفير للغريب أو قتل له لأكثر من ثلاثة قرون. وأما التجربة الأندلسية فقد انتهت بحروب الاسترداد، التي أنهت - وعلى كل المستويات- الوجود الإسلامي والثقافي بإسبانيا بطريقة استئصالية.
أما التجربة الحديثة والمعاصرة للعرب والمسلمين مع الغرب، وعمليات التثاقف التي حصلت؛ فإنها كانت مختلفة عن التجارب الوسيطتين من حيث الدوافع والفترات والنتائج. وقد كان الغربيون هم الذين بادروا إلى فرض ثقافتهم على العالم وبطريقة اجتياحية شملت شتى مجالات الحياة الإنسانية الخاصة. وبسبب هذه الأحداث انقسم المجتمع الإسلامي والعرب إلى فهمين وهما: فهم ابن خلدون "تقليد المغلوب للغالب" وفهم خير الدين التونسي "إن هذا الغرب هو مثل السيل، ولابد من استيعاب موجاته؛ لأنه لا يمكن منع تدفقه لا بالقوة والعنف ولا باللين والمصالحة، وما دام الأمر كذلك فينبغي قبوله والتلاؤم معه أو نغرق في أمواجه الهائجة. وكان هو ورجالات الدولة والمثقفون والآخرون يرون أنّ هذا الاستيراد والاستيعاب أو محاولته لن يؤدي إلى ذوبان المسلمين أو ذهاب دينهم وثقافتهم؛ وذلك لأنّ الاستعانة بأدوات الحداثة سوف تكسب المسلمين مناعة مشهودة. حصلت عمليات الاستيراد أو التوريد هذه حين كانت مجتمعات المسلمين وثقافتهم راكدة، وبالتالي فاقدة لأي مناعة، باستثناء المناعة الدينية، ولذلك سرعان ما اصطدمت المستجدات الأوروبية بالدين، وليس لدى المسلمين فقط؛ بل ولدى مسيحيي الشرق القدامى أيضا.
***
إنّ الثورات العربية كشفت عن "رؤية للعالم" لدى الجمهور الذي نزل إلى الشوارع، لم يكن أحد من الباحثين أو الاستراتيجيين يتوقعه، فضلا عن تقارير المؤسسات الدولية، التي تحدثت عن مطولا عن ضعف مؤسسات المجتمع المدني في العالم العربي، بسبب ضعف قيم الحداثة والمشاركة والديمقراطية، إلى جانب ضغوط الأنظمة وقمعها، فالجمهور الذي نزل إلى شوارع المدن العربية، وتحمل بشكل سلمي وعلى مدى أسابيع متطاولة عنف أجهزة الأمن ومكافحة الشغب.
وأخيرا، قد يكون ما ذهب إليه الكاتب في مشكلة "التثاقف" في العالم العربي صحيحا وفي وصف اختلاف توجهات الشعوب العربية بحكم تأثير الغرب؛ ولكن أرى المشكلة الحقيقية كما أسلفت في وجود الأنظمة الاستبدادية والتي لا شك تسعى جاهدة في خلق المشكلات الثقافية بين من يطالب بمزيد من الحريات وقيم الغرب المعاصر من ديمقراطية وغيرها، وهنالك أحزاب سياسية قد خلقت مثل هذه المشكلات؛ وتبيّن في آخر المطاف أنّها أحزاب آتية من الأنظمة المُستبدة.
