حوارات الحضارات والأديان.. لتعايش أفضل

أيمن البيماني

انقسم علماء المسلمين واختلفوا في قضية الحوار مع الآخر، فهناك من يراه ضرورة ملحّة لتقارب كوني وتعارف بين الأديان، وهناك من يرفضه بشدّة بدعوة رفض الغرب للإسلام كدين ويسكتون عن كل ما يوجّه له من إساءات، متناسين أنّ الغرب ليسوا كلهم على دين واحد وعلى فكر واحد لنحمّل الجميع ذنب البعض. يقول تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الزمر: 7]. وهذا ما تحدّث عنه وناقشه بإسهاب محمد حلمي في مقاله (الحوار بوصفه فريضة إسلامية) والمنشور في مجلة التفاهم.

إن الذين يرفضون الحوار، وأياً كان سبب رفضهم، فإنّهم نسوا كيف أكّد الله سبحانه وتعالى على ضرورة الحوار وأقرّه في عدد كبير من آيات القرآن الكريم كفريضة إسلامية وضرورة في أغلب القضايا تعقيداً، يقول تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ) [آل عمران: 64]. ومما لا شك فيه أن أغلب الرافضين للحوار إما أنّهم يقدّمون الأعراف والتقاليد وتبعية الآخر أكثر من نصوص الشرع، أو أنّهم يقدّمون الانتماءات المذهبية والعرقية، وقد يكونون في أصعب الحالات دينيين متشدقين منغلقين على أنفسهم.

إنّ الحوار ذو بيئة خصبة ومثالية لتلاقح الأفكار، وحل مشكلات الأديان، ووسيلة لإغناء التجربة الدينية مع مرور الوقت، ولكن كالتالي:

أولاً: وسيلته رغبة كل طرف في معرفة الآخر وفهمه وتقبّله.

ثانياً: أساسه تعميق ثقافة الحوار، ومراجعة كل السلبيات والعقبات التي قد تحول بين حوارات الأديان.

ثالثاً: هدفه الحدّ من الأثر السلبي للسياسة والتفرقة العنصرية والمذهبية الدينية.

رابعاً: تأكيد القواسم والقيم الإنسانية والدينية بين أفراد البشرية.

ولا يخفى على أحد ما نراه في وقتنا الحالي من العنف والإرهاب اللذين يعصفان بالآخر، مع ما يشهده العالم من الابتعاد عن القيم الإنسانية، والانحلال الأخلاقي، والعنف الديني والفساد والعنصرية، وإن حواراً متّزناً سيخلق عالماً أقل حدّة وتطرّفاً، من أجل إحلال السلام والتعايش والترابط بين أفراد الإنسانية من مختلف الحضارات والأديان. وهنا نؤكّد ونشدّد على أنّ الحوار لن يكون فعّالاً وذا قيمة تذكر ما لم يكن قائماً على التسامح والوئام، وذلك من حيث تقبّل الرأي الآخر، والتخلّي عن أنماط التفكير العتيقة، والكراهية وبغض الآخر، والحسد والغرور.

إن حوارات الأديان والحضارات من أهم القضايا التي شدد الله عليها في كتابه الكريم، حيث حثّ على احترام الآخر أياً كانت ديانته ومذهبه ومعتقده، وأمر بالسلم مع كافة الفئات والإحسان إليهم وعدم الإساءة لهم ما لم يعتدوا علينا، أما من اعتدى وجار فله معاملة أخرى حسب توجيه الخالق عز وجل: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)) [الممتحنة].

إنّ عالم اليوم يشهد حرباً طاحنة وقاسية شديدة البأس بين العالم المتقدّم والذي يستند على جبال العلم المتينة والتكنولوجيا والتقنية من أجل فرض سيطرته وأفكاره ومعتقداته على الآخر، وبين الحضارات القديمة والتي أصبحت اليوم كالذي يتخبّطه الشيطان من المس، وللأسف فإن أمة الإسلام أصبحت كذلك لا حول لها ولا قوة في الرأي العام والعالمي، وذابت وغرقت في سلبيات بحار العولمة والحداثة دون الإيجابيات، إلا ما رحم ربي.

وكل فرد بإمكانه النظر إلى ما يحدث الآن في الشرق الأوسط، فحرب العراق وظهور داعش وغيرها من الخلافات بين الدول أساسها سوء التعايش بين الأديان والمذاهب، وعدم تقبّل الآخر من جهة، والأطماع الغربية من جهة أخرى، لتصبح المنطقة مسرحاً لمسلسلات دموية يتفرّج عليها العالم الذي يدّعي التمدّن والحداثة بكل برود أعصاب، بدلاً من إيجاد أنجع الطرق ووسائل الحوار لإنهاء الأزمات.

إن الحوار بحد ذاته وسيلة لفض النزاع، وحلّ الخلافات، وتقارب البشرية، ولا يتأتّى هذا إلا بتقبّل الآخر من جهة، والبحث عن الأفكار المشتركة من أجل عالم مسالم من جهة أخرى. ومتى ما وجد هذا الحوار بأسسه السليمة والمنطقية عاش العالم في حياةٍ أقل تطرّفاً ونزاعاً وأكثر حبّاً ووئاماً.

إن قضية الحوار في الإسلام مرتبطة بركنين متينين هما: مسألة الشهود الحضاري للأمة الوسط، والاستخلاف الإلهي للإنسان على الأرض. يقول تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: 143]. إنّ أمة الإسلام لن تحقق الهدف المرجو منها كوسطية وأمّة خير ما لم تستوعب رسالتها، وأسباب ضعفها ووهنها. فكيف لأمة الإسلام أن تتحاور مع الآخر وهي ترفض الأنا؟!! وكيف لها أن تكون خير أمة أخرجت للناس وهي منغلقة على نفسها أشدّ انغلاق؟!! ولذلك شهادة الأمة الوسطية في كل شيء هي تكليف قبل أن تكون تشريفا.

إنّ شهادة الأمة الوسطية لا تنأى عن الاستقامة، حيث الاستقامة في ذلك الحوار، والعدل مع الآخرين لتحقيق الحوار الفعّال، لتنتج معنا الحضارة وهي أسمى مراتب المدنية حيث العقائد والأخلاق أساس كل شي، والازدهار المادي والمعنوي مظهرها وجوهرها، والحوار أساسها وقوامها.

وكذلك فإنّ للحوار شروطاً منهجية وسليمة لقيامه بالطريقة الصحيحة، وهي:

1. تطبيق قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125]، فالحكمة والموعظة الحسنة والأخلاق الرفيعة واختيار أجمل الألفاظ وألطفها وضبط النفس وعدم الانفعال للرأي الآخر أساس الحوار.

2. اعتماد مرجعية واحدة للحوار تعتمد عليها الجهات المتحاورة لكي لا تميل كل فرقة إلى مرجعية خاصة، وكذلك الاتفاق على آليات الحوار مسبقاً ومواضيع المناقشة وعدم التهجّم على عقائد الآخر، وتحديد مصطلحات الحوار والألفاظ المناسبة، لأنّ سوء فهم المصطلحات يؤدي إلى إخفاق عملية الحوار.

3. اعتماد حسن مقاصد ونيات الآخر وتقديرها واحترامها إلى أن يثبت العكس، والحكم على الآخر بظاهره وليس بباطنه، ومن سلوكه وليس من خلال ما يشاع ويقال عنه.

4. العمل على دحض منابع الإرهاب والتكفير والعنف والكراهية، وتحصين الشباب خاصة من الغلو في الدين والتشدّد والتكفير والانحلال الأخلاقي.

5. النقاش حول القضايا الاجتماعية والإنسانية المشتركة بين الحضارات والأديان.

6. تجنّب فرض الأفكار والقناعات على الآخر بالقوة وتجنّب سياسة الإقصاء ونبذ الآخر وتهميشه، وإنما عليك طرح وجهة نظرك وللآخر الحرية في تقبّلها أو رفضها، وكما يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب".

7. التعدد والتنوّع سنّة كونية أوجدها الله منذ الأزل لقوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) [النحل: 93]، وهدف الحوار ليس تقرير من هو على حق ومن هو على باطل.

8. أن يكون هدف الحوار القضاء على مشكلة أو أزمة بما يرضي الأطراف وليس تعميقها وزيادتها، ويجب معها الاعتداد بالحقيقة أياً كان مصدرها.

9. فتح الباب لمشاركة الجميع في الحوار شكلاً من أشكال الديموقراطية، والتعصّب وعدم إتاحة المجال للآخرين هو ضرب من ضروب الديكتاتورية.

10. الحوار أساسه الأدلة العقلية والبديهيات بعيداً عن الأوهام والأساطير، واعتماد مبدأ البرهان والإثبات.

11. تقبّل الحوار مع الآخر أياً كان، وعدم رفضه بداعي العولمة وفقد الهوية والغزو الفكري وغيرها، فالعقل أوسع من هكذا، والحوار أشمل من هذه الأوهام.

12. على ممثلي الحركات الإسلامية بالذات مراعاة ما يكتبونه والبعد كل البعد عن اتهام الآخر بالكفر والزندقة والوعيد والانتقام.

إن الحوار يفتح آفاقاً رحبة، وفضاءً واسعاً من أجل هذه الإنسانية، وإنّ المسؤولية ثقيلة للغاية على أمة الإسلام أن تتصالح مع نفسها وأن تأخذ هذه الرسالة على عاتقها، وتكون الأمة الشهيدة الوسطية التي تضع الحوار نصب أعينها، وتقود العالم نحو تعايش أفضل وتقارب أكبر بين الحضارات والأديان.

أخبار ذات صلة