التزاوج الديني والسياسي: مقارنة بين حضارة الغرب ودولة الإسلام

أيمن البيماني

لَا يختلفُ عاقلان على أنَّ العَلاقة بَيْن الدين والسياسة مُختلفة كليًّا في نشأتها بين الحضارة الغربية وحضارة الإسلام.. وفي هذا المقال سننتقلُ بين مرحلتيْن مُختلفتيْن تماماً في النشأة والتكوين والظهور؛ هما: علاقة الدين بالسياسة في الحضارة الغربية، ولحظة التزاوج الديني والسياسي عند المسلمين. من خلال مناقشة مقال الكاتب سيف الدين مادي -والمنشور في مجلة "التفاهم"- بعنوان: "الدين والسياسة وأثرهما في بناء الحضارة بين الإسلام والغرب".

علاقة الدين بالسياسة في الحضارة الغربية:

قامتْ الإمبراطورية الرومانية قبل الميلاد كحضارة شامخة مُهابة بسبب قوتها وامتداد نفوذها، والدارس لتاريخ هذه الحضارة يلُاحظ ارتباطاً -نوعاً ما- بين الدين والسياسة؛ فكان الإمبراطور بذاته تُسند إليه الألقاب الإلهية؛ مثل: "أغسطس" والذي هو لقب لا يُعطَى إلا للآلهة، وبالتالي فإنَّ النفوذ السياسي أجبر العامة من الناس على احترام الدين وشرعيته آنذاك. ولسوء الحظ، وخلال فترة وجيزة بعد ذلك، بدأت أفكار فلاسفة الإغريق تظهر للعالم، وانتشرتْ رُوحانيات الشرق الأوسط والأقصى، عِندئذ استقرأ الساسة الرومان الوضعَ عندما وصلتْ الحملات التبشيرية بالمسيحية إلى روما، حيث أدركوا بدء نفور الناس من الوثنية القاتمة والاتجاه للمسيحية.

جاء المسيح -عليه السلام- بتعاليم المسيحية الإنسانية النابذة لأوهام الوثنية؛ وذلك من حيث احترام الإنسان، وتوجيه طاقاته وحياته لمحبة الله والإنسان، والسعي للعمران والإصلاح ونشر السلام على الأرض؛ وبالتالي تفاعلت شعوب الإمبراطورية الرومانية مع هذا الخطاب واعتنقته، ليحدث الوئام بين المسيحية والدولة الرومانية؛ حيث أنقذ الدين هذه الإمبراطورية من الانهيار، وأمدَّها بأيديولوجيات جديدة، وحتى مع انهيار الإمبراطورية فيما بعد وتعدُّد الكنائس والتأويلات اللاهوتية؛ فقد بَقِيت المسيحية تلعب الدور الأساسي في تكوين هُوية الإنسان الأوروبي منذ ذلك الوقت، ولم يَرْضَخ الأوروبيون لفكرة فصل الدين عن السياسة. وبما أنَّ المسيحية جاءتْ من أجل سياسة الإنسان؛ فلا يُمكن أن يُبنى المنظور السياسي بمعزل عن الدين، وحيث إنَّ المسيحية هي الديانة التي يزداد فيها توجُّه الإنسان نحو الحياة والعالم؛ فقد بَقِيت الكنيسة الكاثوليكية والدين المسيحي هما الرَّافدان الذان يرفدان السياسة والحضارة بمزيد من الحيوية والأخلاق والحياة في النفوس.

بَيْد أنَّ العلاقة بين الدين والسياسة بدأتْ بالفتور في القرن السابع عشر الميلادي؛ وذلك جرَّاء فلسفات مختلفة نادتْ بالانفصال عن الدين والتوجُّه للعلمانية. عبَّر عن ذلك أمثال باكون في فلسفة العلوم، ونيون في فلسفة الطبيعية، ولوك في فلسفة الفكر. ثم جاءت توجيهات وانتقادات فولتار وروسو...وغيرهم للدعوة إلى التحرر من التعاليم والاعتقادات المسيحية. ودفعت هذه الفلسفة إلى بلورة سؤال النقد لدى كانط في كتابه "الدين في حدود العقل فقط". وهيجل، ودافيد هيوم، وكارل ماركس؛ حيث ساعدته هذه الفلسفات على زعزعة ومحاولة هدم العلاقة بين الدين والسياسة؛ للدرجة التي قال فيها الباحث الفلسفي أندريه كريسون: "إنَّ فلسفة القرن الثامن عشر فلسفة هدَّامة إلى حدٍّ كبير"!!

ولكنْ للمسيحية قوَّة ساعدتها على الصُّمود مثل اعتبارها "العمل عبادة"، ناهيك عن احتوائها عناصر بقاء الحضارة واستمرارها؛ وهي: الإيمان، والأمل، والقوة، والأخلاق. ثم ظهر تيارٌ جديدٌ بقيادة أمثال شاتوبريان في كتاب "عبقرية الديانة المسيحية"، وروبيردي لامنيه في كتابه "محاولة لبحث اللامبالاة في أمور الدين"، حيث عبَّروا عن تعجُّبهم من التيار الذي يحاول إقصاء المسيحية من الحياة الاجتماعية والسياسية. نشأ هذا التيار في فرنسا، ثم امتدَّ لإيطاليا، وبريطانيا، وألمانيا، والولايات المتحدة، مفاده أنَّ القطيعة بين الدين والسياسة غير وجيهة، وأنَّ المسيحية هي من أنشأ ذلك النظام السياسي كاملاً.

ولكن كان خلفهم أوجيست كونت الذي قاد تيار نقد أنصار الرجوع للمصالحة والمذكورين آنفاً، حيث رأى أنَّ الفلسفة المسيحية لم تعُد تتناسب مع المرحلة الجديدة من الحياة، والتي تحتاج أذهانًا صافية وقدرة كبيرة على التفكير؛ لذلك ساعدت فلسفة كونت على زعزعة العلاقة الدينية والسياسية مرة أخرى، وانتشرت أفكاره بشكل كبير في فرنسا وألمانيا وبريطانيا؛ حيث وجدتْ مُناخاً مُناسباً للتكاثر، لتظهر العلمانية والماركسية...وغيرهما من التوجّهات التي تدعو لفصل السياسة عن الدين، وإحلال العلم محلَّ الكنيسة.

ورغم هذا التدخُّل الكبير، ورغم تعدُّد الخلافات وتضارب الأفكار والتيارات بين مُؤيِّد ومُعَارض، ورغم سأم الغرب بعد ذلك من وصاية الكنيسة على الدين والفكر والسياسة؛ إلا أنَّ الغرب لم يستطع إزاحة الفعل السياسي لمؤسسة الكنيسة، ورغم المناداة بالعلمانية والماركسية، إلا أنَّ فصل الدين عن الدولة في أغلب الدول -ليس تعميماً- لم يحدث والدلائل كالتالي:

1- استغلَّت الحكومة الفرنسية الخطاب الديني في بناء النظرية الاستعمارية، واعتبرت أنَّ الدين المسيحي والكنيسة رافدان مهمان للسيطرة على الشعوب.

2- إسقاط مجموعة دينية بريطانية للمشروع الحكومي المتَّجه للعلمنة الكاملة في تسعينيات القرن العشرين.

3- ارتباط بعض الدول بديانات تُبنى على دساتيرها الرسمية مثل الكاثوليكية في مالطا وإمارة موناكو، والأورثوذكسية في اليونان وقبرص، والكنيسة اللوثرية في الدانمارك والنرويج، ناهيك عن تمسُّك الغرب الشديد بدول "الفاتيكان" وتقديسها، واعتبارها عاصمة الكثلكة في العالم.

4- النزوع المتدرِّج في الولايات المتحدة الأمريكية من العلمنة إلى الديمقراطية، لاسيما مع عدم قدرة "الكونجرس" على فرض أي دين أو منع ممارسة دين آخر.

5- شارك في صناعة الحداثة الغربية رجال دين برزوا كروَّاد للإصلاح الديني مثل (البروتستانتيين) في النهضة الإيطالية.

 

لحظة التزاوج الديني والسياسي عند المسلمين:

أمَّا النقطة المحورية الثانية في هذا المقال، فهي لحظة التزاوج الديني والسياسي في الإسلام؛ فالوضع هُنا مُختلف تماماً عن أوروبا؛ حيث إنَّ الدين والسياسة (الدولة) لم يسبق أحدهما الآخر، وإنَّما شَهِدا تلاحماً ونموًّا مُزدهراً في الوقت ذاته، قوامه تعاليم الإسلام السياسية والحياتية التي نادى بها.

جاء الإسلام بتعاليم سمحة وفلسفة جديدة تشدُّ على يد الإنسان بالتخلُّص من ظلمات الجهل والفقر والعنصرية والفساد والتكبُّر؛ حيث استطاعتْ النصوص القرآنية والأحاديث النبوية إقناع البشر بتمام هذا الدين، وأنَّ الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وأوجده على هذه الأرض ليعبده في المقام الأول: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات:56)، ثم في المقام الثاني: عمارة الأرض والعمل الصالح فيها؛ حيث إنَّ العمارة واجبة على الإنسان وليست نافلة يقرر عملها أو تركها. يقول تعالى: "هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" [هود:61]؛ و"استعمركم" أي أمركم بعمارتها.

وهنا.. نستطيع أن نقول إنَّ عرب الحجاز لم يعرفوا معنى الدولة والسياسة إلا مع بزوغ نجم الإسلام، وظهور مجتمع المسلمين في مكة والمدينة، ثم حانتْ اللحظة لإكمال لبنة ذلك المجتمع بتخطيط نظم حياة المسلمين من الشريعة وفق الآيات والأحاديث التي لم تقتصر على الروحانيات، بل طالتها لتعاليم الحكم: "وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ" (المائدة:49)، وطاعة وليّ الأمر: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ" (النساء:59)، والإصلاح: "وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ" (الأنفال:1)، والعدل: "وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ" (النساء:58)، وعدم الإفساد: "وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا" (الأعراف:56)، والشورى: "وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ" (الشورى:38)، والكثير من الضوابط؛ مثل: السعي للمال والبنون، وحفط حقوق الناس، وحسن الجيرة، واحترام الوالدين، وحماية الذات، وحرية الفرد.

وبهذا؛ ومع أوضاع العرب آنذاك والمحيط الجيوسياسي؛ فقد رأى العرب ضرورة تكوين الدولة السياسية، وأصبح التحوُّل للإسلام ليس مطلباً دينيًّا فحسب، بل سياسيًّا أيضاً، والدليل أنَّه عندما قوي أمر المسلمين وكوَّنوا قوة سياسية متينة توافد الناس والقبائل للدخول فيه.

لذلك؛ فإنَّ الثورة المرتبطة بمحمد -عليه السلام- غيَّرت من شكل الحياة، وأسست دولة فتية تحوَّل فيها الولاء من القبيلة للدولة، فجعل للدولة عاصمة سياسية، واعتمد أهم مركز حضري آنذاك (المدينة) في إنعاش النشاط السياسي ومراقبة المراكز والحدود الإدارية. كما بدأ بتجهيز مؤسسات المجتمع المدني وأعمدة الدولة كالجيش ومراكز القضاء وبيت المال، وفرض احترام الدين وساعد الفقراء. كلُّ هذه الإنجازات ميَّزت محمد -صلى الله عليه وسلم- ودين الإسلام عن من سبقوه؛ حيث تبلورت معه فكرة "الدولة".

وهكذا.. كان ديدن الخلفاء الراشدين؛ حيث اكتملتْ على أيديهم أحوال الدولة في البيعة والعدل والمساواة، وكان هذا التزاوج الديني والسياسي أساس ازدهار الحضارة الإسلامية منذ عصر النبي حتى بدأت بالتدهور في أواخر حكم الدولة العثمانية، وتردِّي أوضاعها في القرن السابع عشر، وضعف الفعل الحضاري للمسلمين، لا سيما بعد دخول أقطار مهمة من العالم الإسلامي تحت السيطرة الغربية؛ مثل: سيطرة الهولنديين على إندونيسيا، والبريطانيين على مصر والهند، والفرنسيين والإيطاليين على شمال إفريقيا وبلاد الشام.

وختاماً؛ بعد هذه الرحلة الشائقة، فقد عاد الإسلام ليصبح موضوع اهتمام ليلعب دور الريادة، ورغم التأثير النفسي والاجتماعي والاقتصادي والفكري للاستعمار الغربي؛ إلا أنَّ المسلمين بحاجة لموقف نقدي جاد تجاه أوضاعهم وفرقهم الدينية، ثم وجود قيادات تَعِي أهمية التزاوج السياسي والديني وليس التخلِّي عن الدين في التحديث السياسي الحالي؛ لما يملكه من قوَّة ومرونة وديمومة في نصوصه المتعلقة بالشأن السياسي، مع وجود نظام عقلي يقوم على منظور اجتهادي، ويراعي المتغيرات والثوابت في لحظة ما بعد الحداثة.

أخبار ذات صلة