مَنْ ينقذ التراث وهو رميم؟

إيناس ناصر

في يَوْم إعلان تحرير الموصل -إحدى أهم المدن العراقية وأكبرها تاريخيًّا- من أيدي "داعش" المدنسة، تسللت إلى أرواحنا السعادة برؤيتنا فرحة العراقيين بهذا النصر بعد صراع طويل، ولكنَّ التاريخيين والمؤرخين كانوا يرون سوادا أعظم بعد انتهاء هذه الحرب التي نسفت كلَّ إضافة براقة للتراث الإسلامي من تاريخ عظيم، والذي عشش لسنوات طويلة في هذه المدينة العريقة، وهذا ما تطرق إليه الكاتب فيصل الحفيان في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم"، والذي أشار إلى أهمية دراسة التراث الإسلامي في ظل حروب متتالية هزت المنطقة العربية ووصفها بالزلزال الذي أباد كلَّ شيء ليس على المستوى السياسي فحسب، بل على المستوى الثقافي والحضاري.

التراث كما يُحدِّده الكاتب في مقاله هو ما خلفه الأجداد من علوم ومعارف شُغلوا بها سواء وجدت في المخطوطات أو غيرها.ورغم أهمية دراسته، إلا أنَّ هناك نماذج من الناس يستهينون به ويحتقرونه ويحاولون أن يتربصوا به ليكشفوا عن سوآته، بل إن بعضهم يعتبر من يلتفت إليه قد سقط في شَرَك التخلف، ومنهم من كان له تبعا بعبودية مفرطة، يعيشون بداخله ويأبون المساس به، ورضوا أن يكون هذا الماضي حاضرهم الذي يعيشون متناسين أن الإنسان في تطور مستمر ولا يقف عند محطات توقف فيها السابقون، وللأسف كانت النتيجة أن تاهت حقيقة التراث الكامنة بعطاياه التي خلفها لنا؛ لذلك فإنَّ الكاتب يرى ضرورة أن يهتم دارس التراث بجانب القيم التي تعكس المواقف الأخلاقية والفكرية للتراث وعدم إغفال جانب المعرفة والعلم فيه.

"قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ".. آية تجعلني أؤمن بأهمية أن نعرف ما صنعه السابقون حتى نتعلم منهم ونستفيد من تجاربهم، لا أن نقف عند التراث الذي خلفوه وقفة مفاخرة وتغنٍّ، كما أنني أؤيد التجديد في التراث الذي ناشد إليه الكاتب في مقاله بعدم الانسلاخ التام عن الماضي وعدم العيش فيه وتقديسه، بل دراسته باتزان بلا إفراط ولا تفريط، ولكن: كيف لنا أن نصل إلى التجديد؟

لقد اختصر الكاتب طريقة رائعة للوصول إلى التجديد في التراث الذي يضمن الاستفادة منه وحدد ثلاثة أسس مهمة؛ وهي: اتخاذ موقف متزن للتراث يبتعد عن التقديس أو التهميش، حسن النية والتي وإن تلاشت ستختلط أوراق المصالح الشخصية والأهواء بالحقيقة؛ فدول كثيرة تعمد حاليا إلى تشويه حقيقة التاريخ تحقيقا لمصالحها الذاتية أو ربما السياسية صانعة لها تاريخا جديدا يفتقر المصداقية والصحة، أما الأساس الثالث فهو إجرائي ويعتبر من أهمها في الوقت الحالي، ويضمن الوصول للمعلومة بطرق سهلة في زمن ثورة المعلومات، وهذا ما نشهده فعلا اليوم بتزايد الاهتمام بتصميم مواقع التراث على شبكة الإنترنت.

حقائق كثيرة غُيِّبت في التاريخ الذي نعتقد أننا رصدنا كمًّا هائلا منه. وفي الحقيقة المُرَّة أننا لم نستطع حتى أن نجزم ذلك فعلا، وهنا يعرض الكاتب مثالا لذلك "البحث الاستقرائي لحقل معرفي واحد من التراث: التراث السياسي الإسلامي"، فلقد أجراه صاحبه في العقد الأخير من القرن الماضي، وخلص إلى أن ما تم التعرف عليه ودراسته من مصادر التراث السياسي لا يتعدى عند جميع المؤلفين فيه أكثر من 18%، ولم يتعد عند أي منهم أكثر من 6% من مجمل الكتابات الإسلامية في علم السياسة، ورغم القصور الذي نشهده في دراسة التاريخ إلا أنَّه ظل حاضرا بما تقذفه المطابع كل يوم وما تجده كتب التراث من رواج في المعارض...وغيرها، ولكن: هل يكفي هذا الحضور الكمي والشكلي فقط للتراث؟!

تطرَّق الكاتب في مقاله إلى شروط التجديد، وعرض فيه قضايا مهمة لا بد من الالتفات لها؛ فكثير من مقرري التراث يخافون تجاوز النصوص الأصلية فيدورون حول أفلاكها عاجزين عن الإضافة لشعورهم بالدونية من إنتاج أقل لمعانا بالكلمات البراقة عن السابق؛ وبالتالي يغدو النص الذي يُوْلَد في الماضي حاضرا يقيد ويشد إلى الخلف، لا ماضيا يحرك ويدفع إلى الأمام، وتاريخيون كثر يدعون أنهم محللون ومؤرخون وهم في حقيقة الأمر لا يستطيعون إنجاز شيء سوى تحويل المخطوطة القديمة إلى مطبوع يقرأ، هذا إنْ سلم من التحريف، فكل العمليات التي تستند إلى النصوص لا تتجاوز الاختيار أو الاختصار وتجميع المتشابه مع المتشابه. وهذا ما أوجد رتما مملا على أرفف مكاتبنا العامة، فلا يختلف من تلك النتاجات التاريخية سوى الغلاف الخارجي واسم المقرر لاعتمادهم على مختارات من كتب معينة كرياض الصالحين مثلا أو اعتمادهم على شرح لديوان من دواوين الشعر شرحت عشرات المرات على مدى قرون؛ وبالتالي أصبحت النتاجات تفتقر إلى التحليل والتفسير والتقرير، وبقيت تعرف بالكاتب والشخوص والأماكن وتضيف الحواشي والمصادر للموضوع ذاته دون أدنى جهد، ناهيك عن اعتمادهم في دراسة التاريخ الإسلامي لما له رواج فقط؛ فمثلا همشت مناطق تاريخية كان لها دور كبير في هذه الحضارة كالأندلس والمغرب وإفريقيا، وتمَّ التركيز على بلاد العراق والشام، كما همشت الأسماء والفترات الزمنية التي لم يتعارف على أنها ذات رواج في نتاجها التراثي، وهذا ما أخفى الكثير من التراث الذي من الممكن أن يكون أكثر ألقا وفكرا.

فما أحوجنا للاهتمام أكثر بالتراث الذي بين أيدينا في ظل تماسه مع الثقافات الوافدة والاحتكاك مع الحضارة الغربية وانتشار القنوات الفضائية التليفزيونية التي تنسج التاريخ كيفما شاءت، وتحذف وتضيف منه كما شاءت، مستغلة قوة إعلامها ونفوذه، وفي المقابل تصمت أفواه أخرى عن الدفاع عن حقيقة التراث مكتفية بسطور وجدت في كتب عشش عليها الغبار في أرفف مكتباتها العامة، فهل من المعقول أن يندثر تراثنا ويُصنع آخر مُضلَّل تدرسه الأجيال من بعد هذه العصور؟!

أخبار ذات صلة