إيناس ناصر
وتستمر سيناريوهات حكايات الظلم والتشويه والتضليل لاحتباس أنفاس الحقيقة بأيادي أعداء الدين، فمازالوا إلى اليوم يحيكونها طعنا في الإسلام والمسلمين، في محاولات ستبوء بالفشل حتما ولو بعد حين.
فبعد أن ضل كثير من الناس طريق الصواب، ولم يعودوا يفرقون بين الحق والباطل ظهرت الحركات الإسلامية على الساحة السياسية لدعوتهم للرجوع إلى دينهم وعقيدتهم السليمة، فكانت هذه الحركات ناقوس خطر تصبب منه الغرب - من أعداء الإسلام - عرقا، ودب في صفوفها الرعب، فلم تتوان عن استخدام أية طريقة ممكنة للقضاء عليها، والتخلص منها بنفث سموم مصطلحاتها عليهم والتي تحمل معاني سيئة بمقاييس غير معقولة؛ للتشكيك بهم وتحريض حكوماتهم ضدهم لتوقيفهم، فوصفوهم بالإرهاب تارة والأصولية تارة أخرى، وهذا ما يود أن يوصله الكاتب سامي عبد الرحمن في مقالته بمجلة التسامح "الأصولية بين المفهوم الإسلامي والمفهوم الغربي"، فما هي الأصولية إذن ؟
هل كنت تعلم مسبقا عزيزي القارئ ما يحمله مصطلح الأصولية من معان للرجعية المعادية لكل تقدم؟ وأنه في وقتنا الحالي يعد بمثابة شتيمة سياسية؟ في حقيقة الأمر ولسوء الفهم - ربما- صار لهذا المصطلح صدى وشيوع عجيب حتى بين المسلمين أنفسهم، فبدأوا ينعتون به الدعاة الذين يدعون للرجوع إلى كتاب الله والسنة، ناهيك عن بعض الإعلاميين الذي ينسخون هذه الصفات من وكالات عالمية تدعي الحيادية، وهي تنعت المسلمين بصفات غير مقبولة تماما، ولا تمت لهم بصلة فصاروا ينقلونها ويتداولونها دون تحري لعمق ما تحمله من معان بذيئة وتاريخ نشأة منحط، والذي لا يعرفه الكثيرون منكم أنّ هذا المصلح مرتبط بالكنيسة أولا وأخيرا، وولد في البيئة الغربية (اليهودية والمسيحية)، وليس له أصل من قريب أو بعيد بالبيئة الإسلامية وأنه قد بدأ الزج به في أواخر سبعينيات القرن المنصرم كما أشار الكاتب في مقالته، فقد تتساءلون عن خبايا هذا المصطلح ومعانيه وكيف استخدمه الغرب لخدمة مصالحه.
إن أهم ما كانت تتميز به الأصولية المسيحية المتعصبة هي رفضها التجديد والعصرنة ومحاربتها للتقدم العلمي واضطهادها للعلماء والمفكرين، حيث سعت الكنيسة إلى ترسيخ هذه المصطلحات في الوعي الأوروبي أولا، ومن ثم تعميمه على كل دين وملة بهدف تشويهها، وتقول موسوعة (روبير اللغوية) إنّ كلمة الأصولية تعني تيارا لاهوتيا محافظا أصله بروتستانتي نشأ في الولايات المتحدة الأمريكية أثناء الحرب العالمية الأولى، وهو متمسك بالتعريف الحرفي للنصوص الإنجيلية والتي ترفض كل النظريات الحديثة في علم اللاهوت والدراسات التي تناقضه، كما كانت ترفض الفصل بين الدين والدولة، وهذا بلا شك سيؤدي إلى زيادة اهتمامها بالجانب السياسي وبالتالي سن قوانين وتشريعات مؤيدة لمذهبهم. أمّا الأصوليّة اليهودية فتقوم على تقديس النصوص والشخوص وأقوال الحاخامات بتطبيقها حرفيا وإعطائها سلطة كبيرة رغم مصادمتها للثوابت اليقينية والبديهيات العقلية والتهاون بمحرمات كل الأجناس غير اليهودية وتعميق العنصرية والدموية، فعلى سبيل المثال ما جاء في التلمود (اقتل الصالح من غير الإسرائيليين، ومحرم على اليهودي أن ينقذ أحدا من باقي الأمم من هلاك أو يخرجه من حفرة يقع فيها، لأنه بذلك يكون قد حفظ حياة أحد الوثنيين) ولكن كيف استخدمت إسرائيل وأمريكا هذا المصطلح لصالحهما؟
في أواخر القرن العشرين نشأ تجمّع لعدة منظمات مسيحية بروتستانتية أصولية أطلقوا على أنفسهم "الصهيونيون المسيحيون" وأكد الدكتور القس رياض جرجور الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط في كلمته المعنونة بصهيو مسيحية أو صهيو أمريكية؟ أن هذه ليست سوى مجرد حركة قومية تعمل من أجل عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين وسيادة اليهود على الأرض، متعللين بتمسكهم بما جاء في كتبهم المحرفة، فها هو القس جيري فالويل والذي سبق وأن اتهم دين الإسلام بأنه دين إرهابي يقول: إن إعادة دولة إسرائيل في عام 1948م لهي في نظر كل مسيحي مؤمن بالكتاب المقدس تحقيق لنبوءات العهدين القديم والجديد، من أجل ذلك نرى إراقة دماء المسلمين في الأراضي الفلسطينية وغيرها من الدول الإسلامية في حروب مراهقة لا تفكر إلا بمصالحها الشخصية.
ربما وأنت تقرأ السطور السابقة تحاول أن تجد رابطا بين الأصولية الغربية المعادية لكل فكر، وبين دعاة الحق من المسلمين، وفي الواقع لن تجد أي رابط يربطهما، رغم أنّ الغرب تعمد أن يعتاد إلصاق هذا المصطلح بالحركات الإسلامية وربط معانيها النتنة وسلبياتها المترسبة في العقل الغربي لنبذ الإسلام والتنفير منه، والسخرية من المسلمين المتمسكين بالإسلام على أصوله المتينة من الذين يرفضون مسايرة الأهواء والتقارب بين الأديان الباطلة، وصناعة جو مخيف يسوده الرعب والوهم والتخوف من الدين، وهذا أمر قد اعتدنا عليه وليس بالغريب عليهم.
فيذكر الكاتب عبدالرحمن أنّ صفة الأصولي في الموقف الإسلامي تطلق على المشتغل بأصول الدين أو الفقه أو المهتم بدراسة أصول القضايا والظواهر عامة، أما تعبير الأصولية فيقول الأستاذ فهمي هويدي إنّه لا أصل له في اللغة العربية ولا في الخطاب الإسلامي، وإن الحالة الإسلامية فيها درجات لا تستطيع وصفها بأنها أصولية فهناك معتدلون وهناك متطرفون، وإن كان الانطباع السائد أن كل من تحدث عن الإسلام كمشروع صنف أصوليا، كما أنني اتفق مع الكاتب حينما قال إنّ الإسلام لا يبرر بالإكراه بل إنه يدعو إلى الحق وعقائده الخالصة بالحكمة والموعظة الحسنة. وهذا ما يتنافى تماما مع الأصولية الغربية التي تقهر الآخرين وتجبرهم على التمسك الحرفي ومنع المجادلة فيما ورد في كتبهم، وميلهم إلى استخدام القوة والعنف لفرض هذه المعتقدات، أمّا الإسلام فهو صريح بدعوته للتفكر والتأمل والبحث وإعمال العقل والفكر في الوصول إلى الحقيقة فلا إكراه في الدين.
لقد أعجبني كثيرًا اختصار الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي رده في الاختلاف على هذا المصطلح قائلا: (إن كان التمسك بالإسلام الصحيح عقيدة وشريعة ومنهاج حياة والدعوة إليه والاعتزاز به والدفاع عن مبادئه وحرماته (أصولية) فليشهد الثقلان بأننا أصوليون أقحاح).
فهذه هي ملامح أصوليتنا -إن كانوا يريدون تسميتها بذلك- فلابد من التكاتف لتمييزها عن أصولية الغرب وتيّاراتها السياسية العنصرية والإقصائية، وليشهد الثقلان بأننا مسلمون أقحاح.
