إيناس ناصر
كانوا عالميين في نظرتهم للآخرالمختلف عنهم ثقافيا ودينيا ولغويا وربما جغرافيا، فرغم هذه الاختلافات التي وضعتهم بها الأقدار إلا أنهم لم يقيدوا أنفسهم في حدودهم الخاصة، بل قرروا الإبحار لاكتشاف العوالم المختلفة من حولهم والبحث عما تكتنزه من علوم ومعارف، مندمجين في ثقافتها اندماجا يتبرأ من التعصب لدين أو الانكماش لثقافة، خوفا من وهم أسموه "ضياع الهوية "؛ فولد من رحم هذه المغامرة حضارة قوية تقوم على أسس متينة من المعرفة النابضة بالحيوية، فلقد اتخذوا من الترجمة مجدافا للوصول إلى مقاصدهم المعرفية وسلاحا يذيب كل العراقيل التي كانت تعترض العلماء والباحثين في مسيرة بحثهم.
لقد نشطت الترجمة في العهد العباسي فكونت بذلك حضارة يفخر بها العرب، وجعلوا من عاصمتهم بغداد عاصمة ثقافية وعلمية قادرة على استيعاب جوهر الثقافات الأخرى سواء كان علما أو فلسفة. ومقال أسامة المتنبي المعنون بـ"التثاقف اليوناني العربي خلال العصر العباسي الأول (حركة الترجمة أنموذجا) المنشور في مجلة التسامح تناول هذه القضية واستعرض حكمة الخلفاء العباسيين في توجههم المدروس نحو الترجمة واستفادتهم من العلوم اليونانية بشكل كبير.
ورغم ظهور حركة الترجمة في العصر الأموي، فإنّها اقتصرت حدودها في التعريف بالإسلام والأمور الضرورية المتعلقة بشؤون حياتهم اليومية وفي الدوائر الحكومية كالعقود التجارية والإدارية والمراسلات السياسية، فلم يكن مقاصد الدولة الأموية من الترجمة استيعاب ثقافة الآخر بقدر ما كانت طريقة للتواصل معه. وهذا ما ألاحظه في كثير من دولنا العربية، فلقد غاب الاهتمام عن الترجمات للمعارف الأجنبية واقتصر الأمر على معاملاتنا السطحية. وإن وجدت الترجمة للكتب، فهي شحيحة جدا لا تتعدى مجال الأدب والروايات وترجمة نصوص بسيطة جدا يُملى بها مساحات صفحات مجلاتنا وصحفنا اليومية.
ولكن الترجمة في العصر العباسي تعدت هذه الأهداف فجعفر المنصور عمل جاهدا على أن تكون بغداد مجالا تجتمع فيه تشكيلات فكرية ومذهبية واسعة ومتباينة تكون له سندا في مدافعته الفكرية للذين لا يمكن قهرهم بقوة السلطان فكانت الترجمة أولى نتائج هذه الأفكار، فاعتماد الخلفاء العباسيين على الجدال الفكري كان سببا للفت المهدي إلى كتاب طوبيقيا (مواضع الجدل) لأرسطو ليس شغفا في المنطق الأرسطي وإنما لتعلم الأدوات الفكرية وقواعد وفن الجدال الذي تضمنه هذا الكتاب؛ لإيمانه بأن الحوار لا يتم إلا وفق أصول وقواعد محددة ينبغي احترامها في كل مناظرة.
وذكر الكاتب أيضا أنّ هيمنة الإسلام في ذلك الوقت على باقي الديانات أدت إلى انتشار الجدل والمناظرات لإقحام المعاندين ونصرة الدين على باقي المِلل. وليت الزمان يعود بنا يوما لنتعلم منهم كيف نرد على اتهام ديننا الإسلامي بالتطرف والعنف والأصولية من قبل أولئك الذين يختلفون عنا ثقافيا ولغويا. ليتنا تعلمنا منهم كيف نجيب على أسئلة كثيرة سئلنا إياها فلم نبصر طريقة للإجابة عليها لجهلنا بمصطلحات كثيرة في لغاتهم، فضاعت منا فرص تبيان الحقيقة والجدال المتزن.
وفي الزمن العباسي كان للترجمة فضل كبير في استيعاب التكتلات الثقافية والفكرية المختلفة وصهرها في بوتقة واحدة تتحكم بها دار الخلافة العباسية في توجيهها مستفيدة من ذلك سياسيا وثقافيا واجتماعيا. ورغم ذلك، كانت سياستها الخارجية قائمة على العدائية ضد بيزنطة، تمثلت في توجيه ضربات قوية ضدها لأنهم كانوا بمستوى متدن من الثقافة ليس فقط مقارنة بينهم وبين المسلمين بل حتى اليونان أنفسهم. وهنا أثبت المسلمون بأنهم أعلى شأنا لاستيعابهم المعارف والحكمة اليونانية وترجمة كتبهم إلى العربية، وهذا خير دليل على قيم الحضارة الإسلامية العقلانية والمنفتحة على الآخر. أما عن أسباب نظرة العباسيين المتدنية للبيزنطيين فقد كانت بسبب ظهور النصرانية التي اتخذوها كسلاح تعصب ديني تغصب فيه الأفكار وتحرق الكتب ويضايق العلماء ،فعزفوا عن علوم أجدادهم اليونان وطمسوا ما كانت اليونانية قد أبانته من معارف، وهذا أمر بلا شك لا يقبله الدين الإسلامي.
لقد اعترف العباسيون بعلماء اليونان وحكمائهم بشكل يوازي اعترافهم بغيرهم داخل التراث الفكري العربي قبل الخلافة بزمن طويل وهذا يبين مدى التأثير اليوناني في العمق العباسي الثقافي
كما أن الحاجات الاجتماعية والفكرية للمجتمع العباسي جعل الترجمة تنفتح على مجالات معرفية متعددة ومتنوعة كعلم الطب والجبر والمقابلة، وكتب الطبيعة والأخلاق لأرسطو، كما اهتموا بترجمات علم الهندسة والحساب التي لها فضل كبير في تأليف محمد موسى الخوارزمي كتابه الذي أسس من خلاله علم الجبر. ولست أتعجب من انتشار مكاتب الترجمات الخاصة بالمعاملات الطبية والقانونية في بقاع مختلفة من الدول العربية، فربما لم يجد المترجمون هنا جدوى مادية من الترجمات المعرفية بقدر ماوجدوها في هذه المجالات التي باتت تزداد يوما بعد يوم، ولكن حركة التثاقف الفكري بين اليونان والعرب في العهد العباسي مختلفة تماما؛ فالحاجة الملحة إلى البحث التطبيقي جعل أعداد المترجمين في ازدياد. وباعتبار أن اللغة العربية هي لغة الترجمة، لم تكن ترضي الداعمين للترجمات لأنهم كانو بحاجة إلى مضامين تغني الفكر العلمي ومتون تؤيد إيديولوجية الدولة. وهذا ما جعلهم ينفقون بسخاء على الترجمات حتى أصبحت الترجمة مهنة مربحة يتهافت عليها الكثيرون. والغريب في الأمر أن الكثير من الداعمين لهذه الحركة لم يكونوا من أهل العلم ورغم ذلك لم يترددوا في الإنفاق على المترجمين لينالوا حظوة ثقافية واجتماعية في ذلك الوقت،وهذا الاهتمام ماكان ليكون لولا دعم السلطات العليا بتوفيرها المناخ الاقتصادي والسياسي المناسب الذي حسن من خلاله جودة النصوص المترجمة. وهذا بلا شك يعطينا إشارة قوية إلى فهم أهمية الدعم المعنوي والمادي من قبل السلطات المختصة لتحفيز مجال معين وضمان استمراريته.
كما ذكر أسامة في مقاله أن تزايد المشكلات العلمية التي تستوقف الباحثين والمترجمين العلماء نشّط حركة الترجمة، أما اليوم وللأسف نرى مكاتبنا خاوية من هذه الترجمات التي يحتاج إليها الباحث بشكل مباشر، فلم ينجُ من هذه المعضلة سوى من كانت لديه لغة قوية أخرى يقوم من خلالها بدور المترجم والباحث والمحلل. وما كانت نتيجة ذلك لدى بعضهم إلا افتقار الدقة في دراساتهم، ومنهم من استسلم لماهو متوفر من الكتب العربية ليستخدمها في بحوثه مرة أخرى لتولد بعد ذلك نسخ متشابهة من الأفكار والكتب على أرفف مكتباتنا التي ربما لا تختلف عن بعضها إلا بالعناوين. فكيف السبيل في إيجاد قضايا علمية جديدة تهم المجتمع وترقى به فكريا ومعرفيا لنغير من خلالها مجرى تاريخنا للأفضل؟ وإن وجدت الترجمة الحقيقية فعلا فهل سيعاد دراستها وتحليلها ويستفاد منها أم أنها ستكون سجينة الأرفف؟
